وَعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ لِذَلِكَ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً عَنْ ظَنِّ الْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَيُعْذَرُ أَطْلَقَ فِي الثَّلَاثِ فَشَمِلَ مَا إذَا أَوْقَعَهَا جُمْلَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً وَلَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَ الْجُمْلَةِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْقَطْعِيِّ كَذَا ذَكَرَ الشَّارِحُونَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ «الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ كَانَ وَاحِدَةً فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى أَمْضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى النَّاسِ الثَّلَاثَ» ، وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدْ أَجَابُوا عَنْهُ وَأَوَّلُوهُ فَلَيْسَ الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ قَطْعِيًّا، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قُلْنَا قَدْ خَالَفَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فِي ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحَدَّ، وَإِنْ عَلِمَ الْحُرْمَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِوَطْءِ الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا بَائِنًا وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ وَعَلَى عِبَارَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْحِلِّ فَيَتَحَقَّقُ الزِّنَا اهـ.
وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ إشَارَةُ كِتَابِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا إذَا أَوْقَعَهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَعِبَارَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ عَلَى مَا إذَا أَوْقَعَهَا مُتَفَرِّقَةً لِمَا ذَكَرْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَأَمَّا الزِّنَا بِأَمَةِ أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَسَيِّدِهِ، فَإِنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَلَا حَقَّ مِلْكٍ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْبُسُوطَةَ تَجْرِي بَيْنَهُمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَمْوَالِ، وَالرِّضَا بِذَلِكَ عَادَةً وَهِيَ تُجَوِّزُ الِانْتِفَاعَ بِالْمَالِ شَرْعًا، فَإِذَا ظَنَّ الْوَطْءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ يُعْذَرُ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْجَوَارِي مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ فَيَشْتَبِهُ الْحَالُ، وَالِاشْتِبَاهُ فِي مَحَلِّهِ مَعْذُورٌ فِيهِ وَلِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَخَوَاتٌ مِنْهَا الْمُطَلَّقَةُ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَتْ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا كَذَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُونَ وَمُرَادُهُمْ الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ بِغَيْرِ لَفْظِ الْخُلْعِ أَمَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَقَدْ قَدَّمْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا فِيهِ لَكِنْ فِي الْبَدَائِعِ وَلَوْ خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْخُلْعِ، وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الشُّبْهَةُ فَيَجِبُ الْحَدُّ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وَمِنْهَا أُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَتَثْبُتُ الشُّبْهَةُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ لِبَقَاءِ أَثَرِ الْفِرَاشِ وَهِيَ الْعِدَّةُ وَمِنْهَا الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ، فَإِذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ وَوَطِئْتهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ الْحَدُّ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَتَبِعَهُ الشَّارِحُونَ وَفِي التَّبْيِينِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ عَيْنِهَا لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ مَالِيَّتِهَا فَلَمْ يَكُنْ الْوَطْءُ حَاصِلًا فِي مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الِاسْتِيفَاءُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ وَمِلْكُ الْمَالِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ حَصَلَ الِاشْتِبَاهُ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَجَارِيَةِ الْمَيِّتِ إذَا وَطِئَهَا الْغَرِيمُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تُفِيدُ الْمُتْعَةَ بِحَالٍ، وَالْغَرِيمُ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ التَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالْعَيْنِ لَمَا جَازَ بَيْعُهَا إلَّا بِإِذْنِهِ كَالرَّهْنِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا ظَنَّ الْحِلَّ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا عَلِمَ الْحُرْمَةَ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُهُ لَكِنْ ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ رِوَايَةً ثَالِثَةً أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا حَلَالٌ وَإِنَّ ظَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قِيَاسًا عَلَى وَطْءِ الْغَرِيمِ جَارِيَةَ الْمَيِّتِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِعَامَّةِ الرِّوَايَاتِ كَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ، وَالْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ.
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، وَالْعَارِيَّةُ، الْوَدِيعَةُ فَكَجَارِيَةِ أَخِيهِ وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يُحَدُّ، وَإِنْ ظَنَّ الْحِلَّ كَمَا فِي الْمُحِيطِ، وَالْبَدَائِعِ وَأَطْلَقَ فِي ظَنِّ الْحِلِّ فَشَمِلَ ظَنَّ الرَّجُلِ وَظَنَّ الْجَارِيَةِ، فَإِنْ ظَنَّاهُ فَلَا حَدَّ، وَإِنْ عَلِمَا الْحُرْمَةَ وَجَبَ الْحَدُّ، وَإِنْ ظَنَّهُ الرَّجُلُ وَعَلِمَتْهُ الْجَارِيَةُ أَوْ بِالْعَكْسِ فَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إذَا تَمَكَّنَتْ فِي الْفِعْلِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَتَعَدَّى إلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحَدَّ، وَإِنْ عَلِمَ الْحُرْمَةَ إلَخْ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا مِنْ قَبِيلِ شُبْهَةِ الْمَحَلِّ لَكِنْ الَّذِي فِي التَّبْيِينِ وَالْفَتْحِ وَغَيْرِهِمَا الْجَزْمُ بِأَنَّهَا مِنْ شُبْهَةِ الْفِعْلِ وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ بَعْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمَا سَيَذْكُرُهُ مِنْ الْجَمْعِ فَذَاكَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَالْإِشَارَةُ لَا تُعَارِضُ الْعِبَارَةَ بَلْ الْعِبَارَةُ هِيَ الْمُتَقَدِّمَةُ (قَوْلُهُ: وَالْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ) أَيْ الْمُسْتَعِيرُ أَمَةً لِأَجْلِ أَنْ يَرْهَنَهَا فَاللَّامُ تَعْلِيلِيَّةٌ.