وأما غزوة أحد فإن الرماة رضي الله عنهم خالف منهم طائفة أمر قائدهم، ونزلوا إلى أرض المعركة يجمعون الغنائم، وكانت فرصة لـ خالد، ولا يهلك الناس مثل المعاصي، ولا ينجي مثل الطاعة، وهذا أكبر دليل على ذلك كله.
فلما عصى الرماة النبي صلى الله عليه وسلم معصية واحدة كانت سبباً في هزيمة جيش بأكمله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، فمقاليد التوفيق مقرونة بالطاعات، ومقاليد الخيبة والخسران مقرونة بالمعاصي، والله يقول: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
فهذا الأسلوب القرآني جاء رقيقاً لأنهم انهزموا، فما جمع الله لهم الهزيمة أمام أهل الكفر وتأديب القرآن القاسي، بل جاء تأديب القرآن ليناً لأنهم انهزموا، قال الله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
وأما في بدر التي أرجأت الكلام فإنهم لما اختلفوا في الأسرى ولم يأخذوا بالأمر الأصوب -وهو قتل الأسارى- قال الله تبارك وتعالى عنهم: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67] إلى أن قال الله جل وعلا في الآية التي بعدها: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، فالعتاب في بدر كان أقسى من العتاب في أحد؛ لأنهم كانوا في بدر منتصرين يتقبلون العتاب القاسي، أما في أحد فكانوا منكسرين، فما أراد الله جل وعلا أن يجمع عليهم عتاباً قاسياً مع هزيمة وفي غزوة أحد أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، زعم ذلك عمرو بن قمئة أخزاه الله، فلما أشيع ذلك أصاب المسلمون نوع من الإحباط، فقال الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، فما ربط الله جل وعلا عبادته قط بحياته صلى الله عليه وسلم فأوامر الله تنفذ، سواء مات النبي أو بقي، وجد الإمام أو لم يوجد، وجد القائد المسلم أو لم يوجد، فأوامر الله وعبادته وطاعته وشكره والإذعان له تبارك وتعالى دأب المؤمن في كل زمان ومكان، وهذا الدين الذي هو من عند الله أجل وأعظم من أن يعلق بحياة أحد، ولو أريد لهذا الدين أن يعلق بحياة أحد لعلق بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله يقول للصحابة الذين هم خير جيل وأمثل رعيل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، أي: أن الرسل من قبله ماتوا ولم يتغير شيء، فهو صلى الله عليه وسلم له عند الله ربه المنزلة العالية والمقام الرفيع ولكن أوامر الله ليس تنزيلها معلقاً بحياة أحد كائناً من كان.
ثم إن هؤلاء الرسل تركوا مبادئ وتركوا قيماً، ومن أعظم أخطائنا في الصحوة أن نعلق الناس بالدعاة أو بالعلماء أو بالقادة أو بالمجاهدين، هذا من أعظم أخطائنا في التربية، فالإنسان يعلق بالمبادئ ويعلق بالقيم؛ لأن هذا الذي تفتن به اليوم لا يؤمن عليه الفتنة، فهو نفسه قد يترك الدين ويرجع وينتكس أو يموت ويتغير، فلا تتعلق بمخلوق كائناً من كان، فخذ من الناس ومن العلماء من الدعاة وممن تحب القيم والمبادئ التي عاشوا من أجلها، أما هم فلا تتعلق بهم، وما يحصل عند موت زعيم أو ما أشبه ذلك من هلاك الناس وضياعهم وبكائهم غير صحيح، فأن يبكي الإنسان على شخص يحبه لا بأس به، فالنبي صلى الله عليه وسلم بكى على موت إبراهيم، ولكن لا يعتقد أحد أن الدين سيتبدل أو يتغير؛ لأن فلاناً مات أو لأن عالماً ربانياً هلك، فالدين أعظم من أن يعلقه الله بحياة أحد كائناً من كان.