ثم إن وحشياً هذا رجع إلى مكة ونال حريته، ثم عاش حتى جاء النبي عليه الصلاة والسلام ودخل مكة، ففر إلى الطائف، فلما ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطائف وأسلم أهلها قال: قلت في نفسي: أذهب إلى الشام أذهب إلى اليمن، فبلغني أن النبي عليه السلام لا يؤذي أحداً دخل في دين الله، فقدم المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام فيها، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: (أنت وحشي؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: أنت قتلت حمزة؟ قال: نعم، قال: نعم، قال: كيف قتلته؟ فأخذ وحشي يقص على النبي صلى الله عليه وسلم قتله لحمزة، وعيناه عليه الصلاة والسلام تذرفان)؛ حزناً على عمه، ثم قال له: (غرب وجهك عني) أي: لا أستطيع أن أراك، فهناك حقوق شرعية وهناك حقوق خاصة، فالحق الشرعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يمنع وحشياً من الإسلام؛ لأن هذا دين، هو عليه الصلاة والسلام ما بعث إلا رحمة للعالمين، وأما الحق الخاص الشخصي فلا يستطيع الإنسان أن يتخلص منه، فهو شيء في القلب، فهو عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يطيق رجلاً قتل عمه الذي من أحب الناس إليه، والذي ناصره، وقتله هكذا غيلة من غير مواجهة، فقال له: (غرب وجهك عني)، فكان وحشي رضي الله عنه وأرضاه يتحرج من الطرائق والأماكن التي يمشي فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم عُمِّر وحشي حتى قالوا: إنه قتل مسيلمة الكذاب بنفس الحربة.
ثم إنه كان رضي الله عنه وأرضاه مبتلىً بشرب الخمر، فقلما يصحو في آخر عمره، حتى إن الرواية هذه في قضية قتل حمزة يقول الراوي عن وحشي: لما بُعثت إليه قيل لي: لعلك أن تجده غير شارب للخمر، يعني: في وقت صحو، قال: فوافقته في وقت صحو.
وهنا تأتي مسألة عند العلماء وهي: ينقل عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا يجتمع حمزة وقاتله في الجنة)، لكن يشك في صحة الكلام إلى عمر على اعتبار أن وحشياً مات مدمناً على للخمر فلا يدخل الجنة.
لكن الصواب أن يقال: إن وحشياً أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم قَبِل إسلامه، وهو معدود في الصحابة؛ لأنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام وآمن به ومات على الإيمان، لكن يتوقف عند هذا ولا يدخل في قضية أن وحشياً لا يدخل الجنة؛ لأنه مات شارب للخمر، فالصحابة كلهم يتفاوتون في قضية إتيانهم للطاعات وبعدهم عن المعاصي، والذي يعنينا هنا أن وحشياً هو الذي قتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عن جميع الصحابة.
ثم إن جبيراً هذا نفسه الذي أوصى وحشياً أن يقتل حمزة هو نفسه أسلم، فرحمة الله واسعة، ومن تاب تاب الله جل وعلا عليه، والصحابة لهم منزلة خاصة، والقرآن والسنة لا يجوز لأحد أن يخوض فيهما فيما لا يعرف ولو كانت على غرار المسائل العلمية، وإنما يخوضها بتحقق وبمعرفة ما للصحابة من حق عظيم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما كان من شأن حمزة.