ثم هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومولى أبي بكر: عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي، وهو كافر ولم يعرف له إسلام، وأقام بالمدينة عشر سنين.
هذا الذي ذكره المصنف رحمه الله إجمالاً عن هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فالهجرة من حيث كونها ركب كانوا أربعة: النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو بكر الصديق، وعامر بن فهيرة، وهؤلاء الثلاثة كلهم مسلمون، ودليلهم والخريت الذي قادهم في الطريق هو عبد الله بن أريقط الليثي، ويروى أن اسمه عبد الله بن أريقد يروى بالطاء ويروى بالدال، وهو كافر ولا يعرف له إسلام، أي: لم ينقل بعد ذلك أنه أسلم والله أعلم.
وقد سلما له الراحلتين قبل أن يدخلا الغار، ثم واعداه بعد ثلاث في مكان ما، فقدم عليهما بالراحلتين فاستأمناه ووثقا به وهما في الغار، ووثقا به وهو في الطريق، كل ذلك وهو كافر لا يؤمن بالله ولا يسجد له، وهذا نظيره في القرآن قول الرب تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75]، فقد ذكر الله جل وعلا أن من اليهود من لو ائتمنته على قنطار -وهو أضعاف الدينار- يؤده إليك؛ لشخصيته ذاته لا لدينه، وذكر أن من أهل الكتاب من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً، مع أن الدينار أقل من القنطار.
والمقصود من هذا كله: أن صبغة الإنسان الشخصية أحياناً تفرض عليه الكثير من الأعراف والتقاليد أن يتمسك بها، فقد يوجد إنسان منسوب إلى هذه الملة يصلي ويصوم لكنه قد يخون، وقد يوجد طبيب لم يسجد لله قط نصراني أو غيره ومع ذلك يكون مؤتمناً على تمريضك وعلى عيادتك.
فالذي يعنينا أن النبي عليه الصلاة والسلام اتخذ خريتاً كافراً في طريق هجرته إلى المدينة، هذا من حيث الإجمال، وأما من حيث التفصيل فإننا نقول: إن من سنن الله جل وعلا في خلقه التدرج وتربية الناس، فكما أن المسلمين في المدينة لم ينزل عليهم تحريم الخمر جملة واحدة فإن الهجرة كذلك بيتها الله جل وعلا تدريجياً للصحابة فما زال الله يربي بالقرآن ذلك الجيل والرعيل الأمثل حتى تهيئوا للهجرة، فأنزل الله جل وعلا في مكة سورة الكهف؛ وفي هذه السورة خبر أولئك الفتية الذين تركوا ما عليه قومهم ولجئوا إلى الكهف؛ فراراً بعقيدتهم، فالله أمنهم وأكرمهم وأعطاهم، هذا كله تدرج في تربية المسلمين، ثم كانت سورة العنكبوت، وهي آخر السور التي نزلت في مكة؛ نزلت هذه السورة تمهد للهجرة، وفيها قول الله جل وعلا: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، فهذه إشارة إلى أنه سيطلب منهم أن يتركوا الأرض التي هم عليها، ولا ريب أن ترك الإنسان لوطنه ليس بالأمر الهين، قال الله جل وعلا عن بني إسرائيل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66]، فجعل الله قتل النفس قريناً للخروج من الديار، أي: أن كليهما أمر عظيم شاق على النفس.
ثم مهد الله جل وعلا بذلك أن الإنسان إذا ترك وطنه فإن أعظم ما يمكن أن يخسره الرزق؛ لأن الإنسان أقدر على طلب الرزق في بيئة يعرفه الناس فيها أكثر من قدرته على طلب الرزق في بيئة لا يعرفه الناس فيها؛ خاصة إذا كان قد كون لنفسه مقاماً وموطناً وموئلاً في طلب الرزق، فقال الله جل وعلا في سورة العنكبوت: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60]، فهذا تربية للصحابة أن الرزق لن ينقطع بتغيير الدار وتغيير الأرض وتغيير الوطن، وأن الله جل وعلا هو المتكفل وحده تبارك وتعالى بالرزق، فقال سبحانه: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60]، هذا كله تدرج في قضية الهجرة.
ثم جاء الإذن بالهجرة إلى الحبشة، ولم يكن هذا من السماء، وإنما كان اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن ذلك الملك الذي يوجد في الحبشة وهو النجاشي ملك لا يظلم الناس عنده، رغم أن النجاشي لم يكن مسلماً، ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخرة، ولا يعرف عند دين الإسلام، لكن المؤمنين مستأمنون عنده، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وهذا هو التعريف الحقيقي لما يسمى باللجوء السياسي اليوم.
والذي يعنينا أن هذا كله تمهيد للهجرة إلى المدينة.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم رأى فيما يرى النائم أن دار هجرته أرض ذات نخل بين حرتين، فبشر الصحابة كما في البخاري وغيره، فأخذ الصحابة رضي الله عنهم بعد أن بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم دار هجرتهم أخذوا يهاجرون، فكان أول مهاجر أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه وأرضاه، وأول امرأة هاجرت ليلى بنت أبي خيثمة امرأة عامر بن أبي ربيعة، كانت أول ضعينة هاجرت إلى مدينة رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت تسمى يوم ذاك -كما هو معلوم- يثرب، فتتابع الناس حتى تم الأمر أكثر من سبعين صحابياً، فأراد أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن يهاجر، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام استعداده للهجرة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (على رسلك يا أبا بكر! إني لأرجو الله أن يؤذن لي، ففرح أبو بكر رضي الله تعالى عنه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم الصحبة)، ثم اتخذ راحلتين كانتا عنده ومازال يطعمهما ورق السمر أربعة أشهر ينتظر الإذن من الله بالهجرة.
وهنا أعدت قريش ما أعدت من أمور لا تخفى على أمثالكم، والذي يعنينا هنا هي الفوائد من الهجرة وليس السرد التاريخي، وأما السرد التاريخي فلا أظن أن أحداً يجهله.
أعدت قريش الكثير من الموانع تمنع الناس من الهجرة، ثم تآمرت على نبينا صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله جل وعلا في كتابه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام علياً أن ينام في داره، وخرج عليه الصلاة والسلام يوم الخميس ليلة الجمعة خرج من داره إلى الغار مباشرة، وكان قد واعد أبا بكر عنده، ثم دخل غار حراء بالجبل، وهذا الجبل يقع في جنوب مكة جهة اليمن، والمدينة بالنسبة لمكة هي في الشمال، فهذا نوع من التوهيم على العدو، لكن قريشاً لم يفتها هذا، فأرسلت الطلب في كل مكان حتى وصلوا إلى الغار، فحفظ الله جل وعلا نبيه، كما قال الله جل وعلا: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40] أي: على نبيه صلى الله عليه وسلم، فمكث صلى الله عليه وسلم في الغار حتى خف الطلب، فلما كان ليلة الإثنين خرج صلى الله عليه وسلم من الغار، وجاءهم من واعدوه وهو عبد الله بن أريقط الليثي ومعه الراحلتان، ثم توجه الركب إلى المدينة، لكن عبد الله كان خريتاً كما قلنا فأخذ بهم أولاً جهة اليمن، ثم اتجه غرباً إلى الساحل، ثم أتى بهم من الساحل على المدينة حتى وصل إلى ما يسمى قديد الآن والتي كانت آنذاك بجوار رابغ وكانت ديار بني مدلج، وخرج سراقة بن مالك يتبع النبي صلى الله عليه وسلم حتى غاصت قائمتا فرسه، فلما غاصت وعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم محفوظ دعا له النبي عليه الصلاة والسلام فعاد الفرس كما كان، فبشره النبي عليه الصلاة والسلام بسواري كسرى بن هرمز، قال: (كيف أنت إذا لبست سواري كسرى، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: كسرى بن هرمز، فقال سراقة: كسرى بن هرمز؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم)، أي: أن كسرى هذا سيهلك في عصر النبوة أو ما بعده، فهلك في عهد عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.