نور الإيمان باللّه وتوحيده. فيخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود، إلى المعرفة والطمأنينة والاستقرار والهدوء. ويخرج من الدينونة المذلة لشتى الأرباب، إلى الدينونة الكريمة العزيزة لرب العباد .. إنها لنعمة يدعو إبراهيم ربه ليحفظها عليه، فيجنبه هو وبنيه أن يعبد الأصنام. يدعو إبراهيم دعوته هذه لما شهده وعلمه من كثرة من ضلوا بهذه الأصنام من الناس في جيله وفي الأجيال التي قبله ومن فتنوا بها ومن افتتنوا وهم خلق كثير: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» .. ثم يتابع الدعاء .. فأما من تبع طريقي فلم يفتتن بها فهو مني، ينتسب إلي ويلتقي معي في الآصرة الكبرى، آصرة العقيدة: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» ..
وأما من عصاني منهم فأفوض أمره إليك: «وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وفي هذا تبدو سمة إبراهيم العطوف الرحيم الأواه الحليم فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله ويحيد عن طريقه، ولا يستعجل لهم العذاب بل لا يذكر العذاب، إنما يكلهم إلى غفران اللّه ورحمته. ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية فلا يكشف عنه إبراهيم الرحيم الحليم! ويمضي إبراهيم في دعائه يذكر إسكانه لبعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور للبيت المحرم، ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا القفر الجدب ليقوموا بها: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» .. لماذا؟
«رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ» .. فهذا هو الذي من أجله أسكنهم هناك، وهذا هو الذي من أجله يحتملون الجدب والحرمان. «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» .. وفي التعبير رقة ورفرفة، تصور القلوب رفافة مجنحة، وهي تهوي إلى ذلك البيت وأهله في ذلك الوادي الجديب. إنه تعبير نديّ يندّي الجدب برقة القلوب .. «وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» .. عن طريق تلك القلوب التي ترف عليهم من كل فج .. لماذا؟ أليأكلوا ويطعموا ويستمتعوا؟ نعم! ولكن لينشأ عن ذلك ما يرجوه إبراهيم الشكور: «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» .. وهكذا يبرز السياق هدف السكنى بجوار البيت الحرام .. إنه إقامة الصلاة على أصولها كاملة للّه. ويبرز هدف الدعاء برفرفة القلوب وهويّها إلى أهل البيت ورزقهم من ثمرات الأرض .. إنه شكر اللّه المنعم الوهاب.