فبعث حسان إلى مقاول حمير، واخبرهم خبر جديس، وما فعلت بطسم فقالوا: لا أرب لنا بهم، هم اخوة اغار بعضهم على بعض، وهم عبيدك. فقال: ما هذا يحسن من فعلكم. ان تهدروا دماء احرار اصيبوا بغدر، لا ينصف بعضهم من بعض. فعند ذلك بطشت المقاول للمسير، واجابت حسان إلى النهوض. فسار إلى اليمامة، فأباد جديسا ببغيهم على طلسم، فلم يبق منهم باقية، فهرب قائدها الاسود بن عفار الجديسي. فلحق بأجأ وسلمى وهما اذ ذاك خلا، لا انيس بهما. فلم يزل بهما حتى نزل بهما طيء فقتله عمرو بن الغوث بن طيء.
وان حسانا لما اباد جديسا جعل يتجنا على قتلة ابيه، فقتلهم واحدا بعد واحد إلى آخرهم، فاشتد عليهم امره، ثم انه جمع مقاول حمير وحضهم على الخروج والغزر، وامرهم بالمسير نحو الغرب، وقدم اخاه عمرو بن تبع بين يديه، في ثلاثمائة فيل. فكرهت المقاول فعله ونقضت عليه، وقام فيهم الاخيل بن حيدان فقال: يا معشر حمير، هذا رجل غير راجع حتى يبلغ المشرق، فأنظروا لانفسكم، فأنه قد غدر بنا، وحملنا على ما ليس من امرنا. قالوا: انت سيد القيول وذر رأيهم. فقال: اقيموا مع صاحبكم. وسار حتى لحق عمرو بن تبع فيمن اتبعه من المقاول، فبايعوه على قتل اخيه حسان بن تبع وتمليكه مكانه، ما خلا ذو رعين فانه ابى ان يبايعهم، وكان من اشرافهم من المقاول ونهاهم عن ذلك وحذرهم وحذر عمرا سوء العاقبة، واخبره انه ان فعل ذلك مِنُعَ النوم فقال: ما قتل احد اخاه قط أو اباه الا منع منه النوم، فلا ينام حتى يموت. وان فعلك هذا معيلة وفساد وسهر تضمنه حتى التناد. فأبى عليه الا ان يبايعه أو يقتله. قال: فأدفع اليك صحيفة لتكون امانة عندك، فأتاه بصحيفة لا يدري ما فيها، ولا يعلمه غيرها، وكان في الصحيفة مكتوب:
الا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من ينام قرير عين
فان تك حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الاله لذي رعين
مضى عمرو قدما حتى قتل اخاه حسانا، فلم ينم ولم تغمض عيناه بعد ذلك، إلى ان مات. وكان ملك حسان ذا معاهن بن تبع خمسا وعشرين سنة.
قال عبيد بن شريه: فملك عمرو بن تبع واستنفخت به اهل اليمن ينازعونه، وأتنقضت عليه بالبلاد، ومنع منه النوم. فشكا ذلك، فقيل له: إن النوم لا يأتيك أو تقتل قتله أخيك. فنادى في جميع أهل مملكته: إن الملك يريد أن يعهد عهدا فاجتمعوا. وأقام لهم الرجال، وقعد في مجلسه، ثم أمر بهم أن يدخلوا خمسة خمسة، وعشرة عشرة، فإذا دخلوا أمر بهم فقتلوا، حتى أتى على عاقبة القوم، وأدْخِلَ عليه ذوُ رُعين، فلما رآه ذكر ما كان قال له، وأنشده الشعر الذي أوْدَعه إياه في الصحيفة:
ألا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين
فإن تك حمير غَدَرَت وخانت ... فمعذرة الآله لذي رعين
فأمر بتخليته فأكرمه وقربّه واختصه، وأضطربت على عمرو أموره، وترك الغَزْوَ، وأراد إذلال ولد أخيه حَسَّان، فزوج عَمْراً المقصور ابن حجر آكل المرار الكندي جد امرئ القيس الكندي ابنة أخيه حسان ذي معاهن، فولدت له الحارث الملك بن عمرو بن حُجْر سيّد كندة، وكان يخدم أباها حسان بن تُبّع، وكان ملك عمرو بن تبع ثلاثا وثلاثين سنة.
قال عبيد بن شربة: ثم ملك عبدُ كلال بن مثوّب الرعيني، وذلك أن ولد حَسّان وولد عمرو كانوا صغارا، إلا ما كان من تُبَّع بن حسان فإن الجن استهامته زمانا، فأخذ عبد كلال المُلْكَ مخافة أن يطمع فيه غيرهم من أهل البيت، فوليه بِنُبْلِ وتجربة وسياسة كاملة، وهيبة فائقة، وسرِّح الجنود في العرب فقوتل مخافة الجرأة منهم عليه. قال معاوية: فصنع عبد كلال ماذا؟ قال: بلغنا أنه كان من عباد الله الصالحين، وكان على دين عيسى بن مريم عليه السلام، ونشر إيمانه، وكان مُلكه أربعا وسبعين سنة.