وصل يوسف بن تاشفين إلى المنطقة التي دارت فيها الحرب ومعه ثلاثون ألف رجل، وهناك وصله خبر من بلاده المغرب؛ وهو أن ابنه الأكبر قد مات، فلم يفكر في الرجوع إلى بلاد المغرب مع عظم المصيبة وعظم الأمر؛ بل فضل الجهاد في سبيل الله، ولم يرسل أكبر قواده؛ داود بن عائشة إلى مراكش، إنما أرسل وزيره ليحكم البلاد في غيابه هناك، ولم تفت هذه المصيبة أبداً في عضده.
أما النصارى فقد استعانوا بستين ألفاً من المقاتلين، وكان على رأسهم ألفونسو السادس، بعد أن استعان بفرنسا وبإيطاليا وبإنجلترا وألمانيا، وبعد أن أخذ من البابا وعوداً بالغفران لكل من شارك في موقعة الزلاقة، جاء ألفونسو السادس وهو يحمل الصلبان فيها صورة المسيح، ويقول: بهذا الجيش أقاتل الجن والإنس، وأقاتل ملائكة السماء، وأقاتل محمداً وصحبه! فكلامه يدل على أن الحرب الصليبية ضد الإسلام، وهنا يفاجئنا يوسف بن تاشفين بأمر عجيب، فيرسل رسالة إلى ألفونسو السادس كعادة الجيوش في ذلك الوقت، يقول له فيها: بلغنا أنك دعوت أن يكون لك سفن تعبر بها إلينا فقد عبرنا إليك، وستعلم عاقبة دعائك، {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]، وإني يا ألفونسو السادس أعرض عليك الإسلام أو الجزية عن يد وأنت صاغر أو الحرب، ولا أؤجلك إلا ثلاثاً وبعد ذلك سأحارب مباشرة.
فتسلم ألفونسو السادس الرسالة فاغتاظ بشدة، فأرسل رسالة يهدد فيها يوسف بن تاشفين فقال له: فإني اخترت الحرب فما ردك على ذلك، فأخذ يوسف بن تاشفين الرسالة وكتب عليها من ورائها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأذنك، والسلام على من اتبع الهدى.
فهذا رد شديد جداً على ألفونسو السادس أمام جيشه، فما استطاع أن يتكلم فاختار الحرب، فأرسل رسالة فيها شيء من التخاذل، فقال له: غداً الجمعة والجمعة عيد من أعياد المسلمين، ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين، والسبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم، والأحد عيدنا، فلو أنك تسمح لنا أن نؤجل الحرب ثلاثة أيام إلى يوم الإثنين كان أحسن وأفضل.
فـ يوسف بن تاشفين القائد المحنك لم ير جيشه هذه الرسالة، لأنه يعلم أن هذا الرجل مخادع، ويعلم أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، ويكذبون على الله، وقد قال الله فيهم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100]، فجهز جيشه كامل التجهيز وعبأه على أكمل تعبئة، حتى إذا حدث هجوم مباغت يوم الجمعة يكون جاهزاً للرد على هذا الهجوم، وبالفعل فإنه رتب جيشه رحمه الله في يوم الخميس، وكان من ضمن الجيش ابن رملية من شيوخ المالكية في قرطبة، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام في تلك الليلة، ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فإن الشيطان لا يتمثل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن رملية إنكم منصورون وإنك ملاقينا، فيستيقظ ابن رملية فرحاً مسروراً لا يستطيع أن يملك نفسه من شدة الفرح، فيوقظ يوسف بن تاشفين والمعتمد على الله بن عباد والمتوكل بن الأفطس وعبد الله بن بلقين؛ ويوقظ كل قواد الجيش ويشرح لهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بـ يوسف بن تاشفين ومن معه من القواد لا يملكون أنفسهم من الفرحة فصاحوا بكل الجيش في نصف الليل: ابن رملية رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: إنكم منصورون وإنك ملاقينا، وإذا الجيش كله يعيش لحظة من لحظات السعادة العجيبة جداً، لم يذوقوها منذ سنوات في أرض الأندلس، فتتوق النفوس إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين جيشه بقراءة سورة الأنفال، ويأمر الخطباء بأن يحفزوا الناس على الجهاد، ويمر هو بنفسه رحمه الله على الفصائل ويقول لهم: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومن بقي له الأجر والغنيمة.