ذكرنا في الدرس السابق أنه بعد موت عبد الرحمن المنصور الذي كان يتولى الحجابة في عهد هشام بن الحكم حدث انهيار مروع في أرض الأندلس، وقسمت البلاد إلى (22) دويلة، وهذا أمر في منتهى الغرابة، أن بلاداً صغيرة ليست بالمساحات الشاسعة قسمت إلى (22) دويلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين في الأندلس المجزأة إلى (22) دولة نجد أنها دول مفرقة ومفتتة، وكلها تنتمي إلى الإسلام، وكل واحد من هؤلاء الذين حكموا هذه الدويلات الصغيرة قد أعلن أنه أمير المؤمنين، ليس فقط أمير مدينة من المدن، إنما أمير كل المؤمنين وكأنه يستحق أن يكون أميراً للمؤمنين في جميع أنحاء الأرض.
حتى إن الرجل في ذلك الوقت كان يمر على ثلاثة من أمراء المسلمين في يوم وليلة لصغر حجم الإمارات، فهي بلاد صغيرة جداً، وكل مدينة وما حولها من القرى تعتبر نفسها دولة ومملكة، ولها سياج من حولها ورئيس وإعلام وجيش وسفراء خاص بها، وهي لا تملك أي مقومات للدولة، ويا ليت كل واحد منهم ظل متحكماً في أرضه ولا ينظر إلى أرض أخيه المجاورة، بل إن كل واحد منهم يعتدي على حدود الآخر فينشأ الصراع بينهما.
تخيل أن المدن الإسلامية وحواضر الإسلام في الأندلس كقرطبة تصارع إشبيلية، وبلنسية تصارع سرقسطة وهكذا كان العهد في تلك الفترة صراع بين الممالك الإسلامية أو الدويلات الإسلامية أو المحافظات الإسلامية داخل أرض الأندلس، وكل جيش يضرب الجيش الثاني.
عندما نحلل الموقف نتعجب جداً عن حال الناس في ذلك الوقت، فقد يفهم الإنسان أن الخليفة شرير وخارج عن تعاليم الشرع، ويقاتل من أجل المال، لكن أين الشعوب؟ فالشعب يقاتل الشعب المجاور، وكيف زين للشعوب أن تقاتل إخوانها؟ والإعلام الموجود في تلك الفترة هو الشعر، فإن كثيراً من الشعراء يتحدثون شعراً عما يحدث في هذه البلاد، بل إن معظم أبيات الشعر في تلك الفترة هي تمجيد لهؤلاء القواد الذين يقودون الشعوب، حتى جعلوهم كأنهم إله له الحق أن يشرع، وكانت له أموال ضخمة وبناءات ضخمة، وإنجازات ضخمة، فيفتن الناس بهذا المال وهذا العلو في الأرض فيتبعونه فيما يقول.
وكان هناك ضغط قوي من الجيوش التي تتبع هؤلاء الحكام، فقد كانت تحكم الناس بالحديد والنار، والناس لا تستطيع أن ترفع أصواتها في وجوه هؤلاء الطواغيت، وظهرت فتاوى خاصة تصرح لهؤلاء بالغزو على بعضهم البعض، فهذه صفات المجتمع الأندلسي في ذلك الوقت.
وهناك كارثة أخرى حلت على المسلمين في ذلك الزمان وهي التعاون مع النصارى ضد بعضهم البعض، فمنهم من استعان بأمير قشتالة، ومنهم من ذهب إلى أمير أراغون، ومنهم من ذهب إلى أمير ليون، وكل واحد أخذ له نصير من الدول النصرانية الموجودة في شمال الأندلس، التي كانت في أول هذا العهد تسيطر على (25%) فقط من أرض الأندلس، والتي كانت تدفع الجزية لـ عبد الرحمن الناصر وللحكم بن عبد الرحمن الناصر وللحاجب المنصور.
وأكثر من ذلك أن أمراء الطوائف دفعوا الجزية للنصارى، وقام ألفونسو السادس حاكم إمارة قشتالة أكبر الحكام النصارى في ذلك الوقت بالتوسع في بداية عهد الطوائف، وضم إليه مع مرور الوقت مملكة ليون، فأصبحت قشتالة وليون مملكة واحدة تحت زعامة ألفونسو السادس.
وكان أمراء ملوك الطوائف يدفعون الجزية للأمير ألفونسو السادس من أجل أن يحافظ لهم على الحكم في بلادهم، وكان يسبهم في وجوههم، فما يزيدون على قول: ما نحن إلا جباة أموال لك في بلادنا، على أن تجعلنا حاكمين لهذا الشعب المسكين.
انظر إلى قوله سبحانه وتعالى الذي يصور هذا الواقع، وكأن هذه الآية نزلت في أهل الأندلس في هذه الفترة من الزمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:51 - 52]، أي: نحن لا نستطيع أن نحارب الدول التي حولنا، لابد أن نأخذ معاونة ومساعدة من هؤلاء النصارى المحيطين بنا، فيرد عليهم رب العالمين بقوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].
انظر إلى تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى في آخر عهد ملوك الطوائف عندما يأتي النصر، فإن هؤلاء يسرون في أنفسهم ويندمون ويرجعون إلى دينهم بعد ذلك.
وهذه الآية تصف وصفاً دقيقاً لواقع المسلمين في عهد الأندلس، ولابد أن ندرس القرآن بعناية، والقرآن ليس كتاباً يحفظ في السيارة أو البيت أو يحفظ للبركة، بل القرآن منهج ودستور يربي الأمة والمجتمع، وليس هناك