أسباب ضعف الدولة الأموية وهلاكها في الأندلس

السبب الأول لضعف الدولة الأموية بدأ منذ أيام عبد الرحمن الناصر ذاته، هذا الخليفة القوي الذي أقام ملكاً لم يتكرر مثله في التاريخ، بدأت بعض بذور الضعف تنشأ في عهده.

وأول هذه البذور: الترف الشديد والبذخ الشديد، وكثرة إنفاق الأموال في زخرفة الدنيا، وقد علم أن الدنيا مهلكة، وانشغال الناس بكثرة الأموال من الأمور المهلكة.

فقد أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء، والذي أصبح أعجوبة من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت، فقد كان على رغم اتساعه وكبر حجمه مبطناً من داخله بالذهب، بل وكان السقف لهذا القصر مبطناً أيضاً بخليط من الذهب والفضة بأشكال تخطف الأبصار وتذهل العقول، وهذا تجاوز خطير في أموال الدولة، رغم أنه كان يصرف على كل شيء حق الصرف، كان لا يقصر في نواحي التعليم والجيش، لكن هذا الترف الشديد وهذا البذخ الشديد جعلت القلوب تتعلق بهذه الدنيا.

حتى إن القاضي المنذر بن سعيد رحمه الله دخل على عبد الرحمن الناصر في قصره لما بناه بهذه الفخامة وبهذا الترف الشديد، فقال له عبد الرحمن الناصر: ما تقول يا منذر! في هذا؟ فقال القاضي المنذر بن سعيد رحمه الله ودموعه تقطر على لحيته: ما ظننت الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ مع ما آتاك الله من النعمة، وفضلك به على كثير من عباده تفضيلاً، حتى ينزلك منازل الكافرين، فقال عبد الرحمن الناصر: انظر ما تقول؟ كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟ قال: أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]، أي: لجعلنا هذا الأمر، لكنا لم نجعله، أما عبد الرحمن الناصر فقد فعله وجعل سقف قصره من فضة، فوجم عبد الرحمن الناصر وسقطت عليه الكلمات كالصخر، ثم بدأت دموعه تنسال رحمه الله ثم قام ونقض السقف وأزال الذهب والفضة وبنى السقف كما كانت تبنى السقوف في ذلك الزمن، لكن مع مرور الوقت يعود من جديد ويبرز مظهر من مظاهر الترف بسبب كثرة الأموال، لدرجة أنه ينفق على أشياء لا ينفق فيها.

والإسراف والترف مهلكان، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، وكأن الآية أنزلت في ذلك الزمن.

ولما أسرف هؤلاء في الترف وعاشوا فيه أياماً وشهوراً وسنوات طويلة، بعد ذلك كتب الله عليهم الهلكة والتدمير الذي حل في بلاد الأندلس، بعد هذا الملك الكبير والعز العظيم الذي دام سنوات وسنوات، فسنن الله لا تتبدل ولا تتغير، قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].

السبب الثاني: توسيد الأمر لغير أهله، فـ الحكم بن عبد الرحمن الناصر كانت حياته الطويلة في الجهاد والعلم ونشر الدين في البلاد، ثم قبل أن يموت يوسد الأمر لغير أهله، ويكل الأمور إلى طفل لم يبلغ إلا اثنتي عشرة سنة من عمره، فيتحكم فيه الأوصياء وتحدث المكائد والمؤامرات، وقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة فقال: (أن تضيع الأمانة، فقال الرجل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

هكذا إذا تولى من لا يستحق منصباً من المناصب حدثت الهزة في البلاد وحدث الانهيار، فما بالك لو كان هذا المنصب منصب الخليفة.

ذكرت حادثة في الجرائد عن الإمساك برجل روسي جاسوس للأمريكان في بلاد الروس، فلما سألوه: ماذا كنت تفعل للأمريكان؟ قال: ما كنت أفعل شيئاً، إلا أنه إذا عرض علي خمسة من الرجال لمنصب من المناصب أختار أسوأهم، هذا الرجل كان له منصب كبير في الحكومة الروسية، فمع مرور الزمان كان يختار أسوأ الناس، فضيع الأمر وضيعت الأمانة وبالتالي سقطت البلاد بعد ذلك، فهذا أحد العوامل الذي أسقط البلاد بعد ذلك، فتوسيد الأمر إلى غير أهله علامة من علامات ضياع الأمم، هكذا تعلمنا من سيرة الأندلس في هذا الموقف.

السبب الثالث المثير للانتباه: أن الفترة العامرية اعتمدت عليها الدولة في جهازها على القوة المادية من جند وعدد ومال ومعمار، ولم يصرفوا نواياهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، ولم يربوا الشعب على الجهاد في سبيله سبحانه وتعالى، وعلى طلب الجنة والموت في سبيل الله، لذلك حدث هذا الخلل على ممر ثلاث وثلاثين سنة في الدولة العامرية، أدى في النهاية إلى أن الشعب أصبح يفتقد روح الجهاد الحقيقي، ولا يبغي إلا جمع المال وجمع الغنائم، وسبحان الله! فإن للتاريخ دورات، كنا نتحدث عن عهد القوة، والآن سنبدأ عهداً جديداً من عهود الأندل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015