الجوانب المشرقة من حياة الحاجب المنصور

مع كل المكائد والمؤامرات والقتل من محمد بن أبي عامر، إلا أنه كانت له جوانب مضيئة في حياته، جعلت جميع المؤرخين يتعجبون جداً من سيرته، ومن ذلك ما يلي: أولاً: كان محمد بن أبي عامر مجاهداً من الطراز الأول، غزا في حياته أربعاً وخمسين غزوة لم يهزم في واحدة، فقد وصل في فتوحاته إلى أماكن لم يصل إليها أحد من قبل في بلاد النصارى في مملكة ليون، فاستطاع أن يغزو النصارى في عمق دارهم، ووصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلنطي في الشمال.

كان الحاجب المنصور يقاتل في سبيل الله في كل عام مرتين، عرفت بالصوائف والشواتي، أي: مرة في الصيف، ومرة في الشتاء، أو مرة في الربيع، ومرة في الخريف.

ومما يذكر عنه أنه سير جيشاً كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين أسيرات في مملكة نافار، ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من ضمن هذه العهود: ألا يأسروا أحداً من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم.

فذات مرة ذهب رسول من رسل محمد بن أبي عامر إلى مملكة نافار، فتجول فيها بعد أن أدى الرسالة إلى ملك نافار، ففي أثناء هذه الجولة وجد ثلاثاً من نساء المسلمين في كنيسة من الكنائس، فتعجب لوجودهن، فلما سألهن عن ذلك قلن: نحن أسيرات في هذا المكان، فغضب الرسول غضباً شديداً وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه بذلك، فما كان منه إلا أن سير جيشاً كاملاً لإنقاذ هؤلاء النسوة، فلما ذهب الجيش إلى بلاد نافار، استغرب ملك نافار وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم وقد كان بيننا وبينكم معاهدة على ألا نتقاتل ونحن ندفع الجزية، قالوا: عندكم أسيرات مسلمات، فقال: لا نعلم بهن، فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النساء، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن، وقد أسرهن جندي من الجنود، وقد تم عقاب هذا الجندي، وأرسل رسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذاراً كبيراً، فعاد الحاجب المنصور ومعه النساء الثلاث.

وهذه عزة كبيرة جداً لجيش المسلمين ولدولة المسلمين أن يسير قائد المسلمين جيشاً كبيراً جباراً لمجرد إنقاذ ثلاث من نساء المسلمين.

يذكر عنه أيضاً أنه عبر بجيشه مضيقاً في الشمال بين جبلين لفتح بلاد النصارى، فنصب له النصارى كميناً كبيراً وتركوه حتى دخل بكل جيشه، ثم قطعوا عليه طريق العودة.

فلما رجع الحاجب المنصور ووجد المضيق مغلقاً بالجنود عاد مرة أخرى إلى الشمال واحتل مدينة من مدن النصارى في الشمال وأخرج أهلها وعسكر فيها، ووزع ديارها على جنده، وتحصن فيها وعاش فيها فترة واتخذها مركزاً له، وأخذ يرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى ويأخذ الغنائم، ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتله النصارى ومنعوه من العودة منه، فضج النصارى وذهبوا إلى قوادهم، وقالوا: لا نجد لنا حلاً في هذا الرجل إلا أن تفتحوا له الباب حتى يعود إلى بلاده مرة ثانية، فعرضوا عليه أن يخلوا بينه وبين طريق العودة فرفض، وقال لهم: سأمكث فيها ستة شهور وأقوم بالصوائف والشواتي من مركزي في هذه البلاد، فقال النصارى: ارجع إلى بلدك ولك ما تريد، فاشترط عليهم شروطاً وهي ما يلي: الشرط الأول: أن يفتحوا المضيق ولا يبقوا فيه نصرانياً واحداً.

الشرط الثاني: أن ترفعوا جثثكم التي ألقيناها في المضيق.

الشرط الثالث: أن تحملوا الغنائم من بلاد ليون في الشمال إلى قرطبة في الجنوب.

وكان من عادته أن ينفض ثيابه بعد كل موقعة، ويرفع ما خرج منها من غبار ويضعه في قارورة ويجمعه معه، ثم أمر في نهاية حياته أن تدفن هذه القارورة معه حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى، وذلك متشبثاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم)، هذا حديث رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح.

ومع كل هذه الحروب ومع كل هذا الجهاد، ومع أنه غزا (54) غزوة لم يهزم في واحدة منها، إلا أن سمت الحروب للحاجب المنصور لم يكن سمتاً إسلامياً، مثل: سمت الحروب في عهد عبد الرحمن الناصر أو الحكم بن عبد الرحمن الناصر، فكان الحاجب المنصور يخترق بلاد النصارى ويصل إلى العمق ويقتل منهم ويعود محملاً بالغنائم، لكن لم يكن من همه أبداً أن يضم هذه البلاد إلى بلاد المسلمين، أو أن يعلم أهلها الإسلام أو ينشر الدعوة في هذه البلاد، فبقي الحال كما هو عليه، بل إن النصارى ازداد في قلوبهم الحمية لدينهم والحقد على المسلمين.

هذا جانب من جوانب حياة محمد بن أبي عامر الجانب الجهادي أو الجانب العسكري من حياته.

وقد اهتم بالجانب المادي والحضاري في البلاد، فأسس مدينة الزهراء على أحدث طراز وزاد في مساحة مسجد قرطبة حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية، وكان يضيف هذه المساحات الزائدة إلى مسجد قرطبة بعد أن يشتر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015