أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذه هي الحلقة الحادية عشرة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط.
في الحلقة السابقة تحدثنا عن سقوط دولة المرابطين السنية المجاهدة، وقيام دولة الموحدين على أكتافها، وذكرنا عوامل سقوط دولة المرابطين، ومنهج التغيير في دولة الموحدين حتى قامت في سنة (541) من الهجرة، وكان أول حكامها هو عبد المؤمن بن علي صاحب محمد بن تومرت المؤسس الحقيقي الفعلي لجماعة ولدولة الموحدين.
كان محمد بن تومرت آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لكن أسلوبه في معاملة الناس كان فظاً شديداً، وقد ربى عبد المؤمن بن علي ومن معه من قادة الموحدين ومن أتباع الموحدين على الزهد والتقشف في الدنيا، وعلى القتال الشديد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنهم تأثروا بأسلوبه في التعامل مع الناس، فكانوا يتعاملون معهم بحدة كبيرة.
جاهد عبد المؤمن بن علي جهاداً كبيراً، فقد كانت له صولات وجولات، وأقام دولة قوية جداً في بلاد المغرب والأندلس تعرف بدولة الموحدين، بدأت سنة (541هـ)، وقد وصفه الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه العبر، وابن العماد في شذرات الذهب، وذكروا عنه أنه كان ملكاً عادلاً سائساً عظيم الهيبة عالي الهمة، كثير المحاسن، متين الديانة، قليل المثل، كان يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير، فإن عموم الناس في زمانه كانوا يلبسون الحرير، فكان من صفاته الحسنة أنه كان لا يلبس الحرير، وكان يصوم الإثنين والخميس، ويهتم بالجهاد والنظر في الملك كأنما خلق لهما، وكان سفاكاً لدماء من خالفه من أتباعه أو غير أتباعه.
ومحمد بن تومرت لما كان يرى أن أتباعه ينظرون إلى غنائم دولة المرابطين في حربهم لهم، كان يحرقها حتى لا تتعلق قلوب الناس بهذه الغنائم، والذي كان يفوته قيام الليل من جماعته كان يعزره بالضرب؛ لأنه لا يقوم الليل.
فنشأت جماعة من الطائعين العابدين الزاهدين الورعين، لكن بأسلوب خالف منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب على قيام الليل، ولا يحرق الغنائم، ولا يتبع هذا الأسلوب الشديد جداً والعنيف.
وأصبح عبد المؤمن بن علي مثل محمد بن تومرت في طريقته الشديدة العنيفة، لكن يذكر أيضاً لـ عبد المؤمن بن علي أنه لم يكن مقتنعاً بفكرة عصمة محمد بن تومرت؛ لأنه أبداً ما دعا إلى فكرة عصمة محمد بن تومرت ولا إلى مهديته، ولا إلى فكر الخوارج الذي ظهر في بعض كلام محمد بن تومرت، وعلى الجانب الآخر فهو لم ينف هذه الأفكار الضالة صراحة؛ لأن معظم شيوخ وقواد الموحدين على هذا الفكر، فخاف عبد المؤمن بن علي من إعلانه أن أفكار محمد بن تومرت كانت ضالة ومخالفة للشرع أن يحدث انقلاباً في دولة الموحدين في هذه الفترة الحرجة جداً في تاريخ المسلمين.
كان في قيام دولة الموحدين وسقوط دولة المرابطين في سنة (541هـ) ومقتل حوالي ثمانين ألف مسلم تداعيات ضخمة لهذا الموقف الخطير في كل بلاد دولة المرابطين، لكن الذي يخصنا في هذا الأمر هو ما حدث في بلاد الأندلس، فكان على النحو التالي: أولاً: في سنة (542هـ) أي: بعد سنة واحدة من قيام دولة الموحدين سقطت ألمرية في يد النصارى، وألمرية مدينة في جنوب الأندلس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكان ذلك بمساعدة فرنسا، واستشهد الآلاف من المسلمين، وسبيت أربع عشرة ألف فتاة مسلمة في سنة (543)، وسقطت طرطوشة ثم لاردة في يد النصارى التي هي مملكة سرقسطة في الشمال الشرقي، التي كان قد حررها المرابطون قبل ذلك، ثم سقطت من جديد في يد النصارى.
وفي سنة (543هـ) أيضاً توسعت مملكة البرتغال في الجنوب، وكانت من أشد ممالك النصارى ضراوة على المسلمين، وفي نفس السنة احتلت تونس من قبل النصارى، فقد بدأ النصارى يحتلون بلاد المغرب العربي، كانت هذه التداعيات متوقعة نتيجة الفتنة الكبيرة التي دارت بين المسلمين في بلاد المغرب العربي.