الأمر الثاني: أن الذنوب كثرت في أرض المرابطين سواء في أرض المغرب أو أرض الأندلس مع وجود العلماء الكثر، فكثرة الذنوب أمر طبيعي في بلاد المرابطين بعد أن كثرت فيها الأموال وانفتحت الدنيا؛ لأن معظم الذنوب تحتاج إلى أموال كثيرة لإيجاد الخمر والمخدرات ودخول الملاهي الليلية وما إلى ذلك من أنواع المعاصي.
والنفوس الضعيفة التي كانت في دولة المرابطين، والتي كانت تفكر في الذنوب وكانت لا تقدر عليها، بدأت بعد أن كثرت الأموال عندها ترتكب من المعاصي الكبيرة ألواناً وأشكالاً، والناس جميعاً إلا ما رحم الله يفتنون بالمال ويقعون في الذنوب؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على لسان قوم نوح لنوح عليه الصلاة والسلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، والأراذل هم: ضعاف الناس وبسطاؤهم وفقراؤهم، وهم الذين اتبعوا نوحاً عليه السلام واتبعوا الرسل من بعده، واتبعوا كل الدعاة من بعدهم إلى يوم القيامة.
وسبب ذلك كله هو أن العلماء انشغلوا بفرعيات الأمور وأغفلوا أساسياتها، فانشغلوا بالفروع عن الأصول، فأخذوا يؤلفون المؤلفات ويعقدون المناظرات، ويقسمون التقسيمات في أمور لا ينبني عليها كثير عمل، بينما أغفلوا أموراً لا يصح لهم أبداً أن يتركوها، وتناظروا كثيراً عن كيفية وضع اليد أثناء الصلاة، هل توضع على البطن أو على الصدر، وفي أي مكان في الصدر؟ وعن كيفية وضع السبابة أثناء التشهد، هل ترفع من أول التشهد أو في منتصف التشهد فقط؟ وهل ترفع ساكنة أم متحركة؟ وهل حركتها رأسية أفقية أم دائرية؟ وهذا في منتهى الغرابة أن تجد الناس يتجادلون كثيراً في هذا الأمر، وتناظروا طويلاً في مذهب المرجئة والمعطلة والمشبهة والمجسمة وأمور ما كان الناس يرونها ولا يسمعون عنها أبداً، وفتحوا على الناس أبواباً ما فتحها عليهم رسولهم صلى الله عليه وسلم.
ونتج عن هذا التعمق في الفروع أشياء خطيرة منها: أولاً: وجود جدار عظيم جداً بين العلماء والعامة، فلا العامة يفهمون العلماء ولا العلماء يفهمون العامة، ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أعلم البشر وأحكم الخلق كان يتكلم بالكلمة فيفهمه كبير الصحابة والأعرابي البسيط والرجل والمرأة والكبير والصغير صلى الله عليه وسلم، لكن في عهد المرابطين الأخير لما اشتغل الناس بالفروع والتهوا بها عن الأصول، حدث أمر آخر نتيجة هذه المناظرات الطويلة وهو عزلة خطيرة للعلماء عن المجتمع، وأخذوا يتحدثون في كل هذه الأمور، وتركوا مصائب عظاماً حلت على المجتمع، فقد كانت الخمور تباع وتشترى، بل وتصنع في البلاد ولا يتكلم أحد.
وضرائب باهظة تفرض على الناس غير الزكاة بغير وجه حق، ولا يتكلم أحد من العلماء.
وظلم الولاة لأفراد الشعب ولا يتكلم أحد من العلماء.
وملاه للرقص تعلن الفساد والسفور ولا يتكلم أحد من العلماء.
وخروج النساء حاسرات بلا حجاب ولا يتكلم العلماء عن هذا الأمر.
ففي زمن دولة المرابطين في سنة (500هـ) وما بعدها كانت النساء يخرجن من بيوتهن سافرات بلا حجاب، والعلماء لا يتكلمون عن هذه الأمور، بل هم منشغلون بالحديث عن المرجئة والمعطلة وغير ذلك، ويعتقدون أن هذه الأمور التي يجب أن يشغل بها المسلمون عن هذه الأمور الأقل قيمة في نظرهم.
فحدث في أواخر عهد المرابطين غياب الشمولية في دولة المرابطين، وفتنة الدنيا والمال، وكثرة الذنوب، وجمود الفكر عند العلماء، وانعزالهم عن المجتمع، وفوق كل هذه الأمور تحدث أزمة اقتصادية حادة جداً في دولة المرابطين، وهي أن ينقطع المطر سنوات، وهذه الأزمة ليست صدفة، بل هي في قرآن الله الكريم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
وقال تعالى حاكياً عن قول سيدنا نوح عليه السلام لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13].
إذاً: الله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمنين دائماً بالقحط وبالأزمات الاقتصادية الحادة عندما يبتعدون عن طريقه، فلو لاحظت في مجتمعك أن الحالة الاقتصادية بدأت تسوء والأموال تقل في أيدي الناس، والناس تشتغل وتعمل ولا تحصل ما يكفي لسد رمقهم أو ما يكفي لعيشهم عيشة كريمة، فاعلم أن هناك خللاً في العلاقة بين العباد وبين الله سبحانه وتعالى، وابتعاداً عن منهج الله سبحانه وتعالى، ولو كانوا يطيعونه سبحانه وتعالى لبارك لهم في أقواتهم.
ثم تلا هذا الوضع الذي حدث في بلاد المرابطين هزائم متعددة من قبل النصارى؛ كموقعة قتندة سنة (514هـ)، و