وإنما اخْتُلِف فيمن أسلم من غير أهل مكة، فقيل: كانت الهجرة لهم نافلةً، ومُرَغَّباً فيها، ولم تكن واجبة، وقيل: إنما كانت الهجرة واجبةً على من أسلم، فأما إذا أسلم كلُّ مَنْ في الموضع، فلا هجرة عليهم، واستدلَّ من صار إلى هذا بما كان من تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره، ونهيه؛ لوفدِ عبدِالقيس حين أسلموا، ولم يأمرهم بالهجرة، بل أقرَّهم بأرضهم (?) .
فالهجرة -على هذا- تقع على أمرين:
أحدهما: ماكان مخصوصاً بمؤازرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاونته، والجهادِ معه، حتى
أعْلَى الله -تعالى- كلمة الإسلام، وأظهَرَ دين نبيه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ الذي أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدّين كلِّه، ولو كره المشركون، فهذا هو الذي وَرَدتْ فيه الآثار الصحيحة: أنه نُسخ بعد فتح مكة، وعُلوِّ الإسلام وأهله.
خرَّج البخاري (?) عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح بمكة: «لاهجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا» . فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا استنفرتم فانفروا» بيانٌ أن الهجرة التي نُسِخَتْ هي ماكان من مهاجرة أرضهم وديارهم في اللِّحاق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لإقامة الجهاد معه، فلما علا الدِّينُ، وتمَّ وعد الله؛ رُفعَ ذلك عنهم، وأوجب إجابة النفير متى احتيج في أمر الجهاد إلى طائفة تستنفر من المسلمين.