فرأينا أن نُنَبِّهَ على فَرْقٍ بينهما.
فنقول: إنه لما ثبت وجوب الوفاء، وحظر الغدر، وتقرَّر في حد الأمان الأوصاف المقيدة في (فصل التأمين) قبل هذا، وثبت مع ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في
إباحة الخديعة في الحرب، وفعله في ذلك ما ذكرناه؛ انقدح وتبين أن الخديعة المباحة: هي كل ما يرجع إلى إجادة النظر في تدبير غوامض الحرب، وإدارة الرأي فيه بما يوهم العدو الإعراض عنه، أو الغفلة دونه، وما أشبه ذلك من التقدم بكل ما يقع به توهينُ العدو، أو تلتمس فيه غِرَّتُه، وإصابة الفرصة منه على وجهٍ لا يوهمُ الأمان، ولا يتضمن الإشعار بالأُنس إليه على حال، فيدخل في ذلك التورية والتبييت وتشتيتٌ بينهم، ونصبُ الكمين، والاستطراد حال القتال؛ لانتهاز فرصة الكرِّ، وما أشبه ذلك، مما يرجع الأمر فيه إلى ما حَرَّرْناه، وليس من ذلك أن يظهر لهم أنه منهم، أو على دينهم، أو جاء لنصيحتهم، فإذا وجد غفلةً نال منهم، هذا داخلٌ في باب الأمان؛ لأنَّ العدو يَستشعر منه الموادعة والموالفة، فيسكن إليه، فالإيهام عليه بمثل ذلك لا يجوز، وهو خيانةٌ -كما تقدم-.
ونُكتة الفرق أن اطمئنانه في هذا وأمثاله -مما قلنا: إنه يكون من باب الأمان-؛ إنما سبيله استشعار المسالمة والموالفة، فهو يستنيم إلى ما يعتقده فيه من الوفاء في ذلك؛ ثقةً به، وبما أظهر إليه مما يدلُّ عليه، فلم يؤت هذا من تَقَلُّبِهِ، بل من خَتَرِ الآخر فيما أظهر من الموالفة (?) ، وارتكب من الخيانة، وفي أبواب المكر والخديعة إنما كان اطمئنانه لغفلةٍ من نفسه، أو جهلٍ في استشعار الغفلة، والتقصير من الآخر، وما أشبه ذلك، مما ترجع العهدة فيه على سوء نظره، من غير خيانة تلحق الآخر في أمره، وهذا بيِّن، والحمد لله.
ولِتَمَثُّلِ مسألةٍ تكون بظاهرها من باب الأمان تارةً، ومن المكيدة الجائز فعلها تارةً، ولا فارق إلا اختلاف عوارض اطمئنان العدوِّ على القانون الذي