فأمَّا الأول؛ وهو إذا كثر عدد المشركين، فكانوا فوق الضِّعف، فذهب قوم إلى أن الفرار محرمٌ -أيضاً- على كل حال، ولا يحلُّ التولي عنهم إلا لمتحرفٍ لقتال، أو متحيزٍ إلى فئةٍ يستنصر بها من المسلمين، وإليه ذهب أبو محمد بن حزم (?) ، وأظنُّه قول جماعة أهل الظاهر، ودليلهم على ذلك: عمومُ آية النهي عن التولِّي عند الزحف، وإطلاقُ الوعيد كذلك على من ولَّى عموماً، من أي عددٍ
كان، ولم يَرَوْا آيتي التحريض في الصبر، ووعدِ الغلب تعرَّضتا لذلك بنسخٍ ولا تخصيص، بل هو عندهم باقٍ على عمومه، كما قد أشرنا إليه في الفصل قبل هذا.
وذهب مالكٌ (?) ، والشافعي (?) ، وأبو حنيفة (?) ، وجمهور أهل العلم إلى أنه لا حَرجَ على من ولَّى أمام عَدَدٍ فوق ضِعْفَ المسلمين، إذا خشوا الغَلبة، وهم في سَعَةٍ من الفرار، إذا زاد المشركون على الضِّعف.
ومستند هؤلاء ما دلَّ عليه ظاهر قوله -تعالى-: {إِن يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مائَتَيْنِ} إلى قوله -تعالى-: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكمُ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإن يَكُن مِنكُم مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مائَتَيْنِ وإِن يَكُن مِنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذنْ اللَّهِ} [الأنفال: 65-66] ، فحملوا هذا على أنه مخصوصٌ؛ لعموم النهي عن التولِّي عند الزحف، وبَيَّنَتْ عندهم هذه الآياتُ أن ذلك ليس على الإطلاق في لقاء كل عدوٍّ من الكفار، بل هو في حال كون العدد على مبلغ ما ذُكِرَ في الآيتين فأقلَّ، فأما ما زاد على ذلك، فظاهر الآية، وما ذُكِرَ من التخفيف يدل