في هذا الباب وإن لم يكن متضَمّنُها من فروضِ الدين فهي مُحتمِلةٌ للتأويل
أيضا، لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل في خبرِ عائشةَ وخبرِ جابرِ بنِ عبد الله وخبرِ أبي ميسرةَ إنَّ الله تعالى أنزلَ عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) .
ولم يُنزِل عليّ شيئا قبلَ ذلك، وكذلك القصةُ في قوله: "قيل" في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
وقوله: قيل لي: قل: (الحمدُ لله رب العالمين) ، لأنّه لم يقل في القصتين: ولم يَنزلْ عليّ شي لا قبل ذلك، ولا قال في كل قصة: وكان ذلك أولَ شيء أُنزل على من القرآن لم يتقدمه شيء، ولا نحوَ ذلك من الكلامِ الظاهرِ الجليّ الذي لا يحتمل غيرَ ما صَرّحَ به فيه، فيحتمل إذا لم يقل ذلك.
وقد كان يُنادَى مراتٍ كثيرة، ويَرى النورَ ويسمعُ الصوتَ ويَرجُفُ
لذلك، ويتردّد ذلك عليه عندَ استفتاح النبوة، حتى أوجب ذكرَه لخديجةَ
عليها السلامُ ولورقةَ بن نوفلَ أن يكونَ قد كانَ ابتُدِأ بأن أُنزلَ عليه
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) في بعض تلك المرات، ثم نُوديَ بعد ذلك فمضى إلى خديجة، ودُثّرَ ثم أُنزل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) .
فيكونُ بعدَ شيءٍ أُنزلَ قبلَه، وكذلك خبرُ أبي ميسرةَ يَحتمِلُ أن يكونَ قيل له في أحد تلك المرّات: قل الحمد لله رب العالمين إلى آخرها، بعد أن قد كان أُنزلَ عليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) و (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) .
وإذا احتَمَلَ الأمرُ ما ذكرناهُ ساغَ فيه التنازعٌ والخلافُ والاجتهادُ
وترجيحُ الظنون.
وقد كان يُسمَعُ مَن تكلم في ذلك من الصحابة وروى فيه ما روى تَرَكَ
الكلامَ فيه، ولم يكن مأثوما لو ترك الكلامَ فيه، ولم يكن ليمنعه أن لا يتلوَ
السورةَ على ترتيبِ آياتها ونظامها، لأن ذلك من آكَدِ شيء فُرِضَ عليه
وأُلزِمَه، وحُظِرَ عليه خلافُه على ما بيَّنَّاه من قبل، فافترقَ الأمران في هذا
الباب، وكذلك مَن تركَ من أهل عصرِنا الخوضَ في أول ما أُنزِلَ من القرآنِ