الإنسان إن أعجبه شيء من هذا لا يعوّل عليه، وإن ساء منه شيء لا يحطّ إليه، بل يكون توكّله على ربّه في مسرّته ومساءته، أكثر من تفرّده بحوله وقوّته، في اختياره وتكرّهه، وهذا يحتاج إلى عقل رصين، وهمّة صاعدة، وشكيمة شديدة، وليس يوجد هذا عند كلّ أحد، ولا يصاب مع كلّ إنسان.

فقال الوزير: قد أخذت المسألة بحقّها، والمستزيد منها ظالم، والزائد عليها متكلّف.

وقال أيضا: أريد أن أسألك عن ابن فارس أبي الفتح- فقد كنت عنده بقرميسين أياما- وما وضح لك من تقدّمه وتأخّره في صناعته وبضاعته؟

فكان من الجواب: إنّه شيخ فيه محاسن ومساوئ، إلّا أنّ الرّجحان لما يذمّ به لا لما يحمد عليه، فمن ذلك أنّ له خبرة بالتصرّف، وهناك أيضا قسط من العلم بأوائل الهندسة، وتشبّه بأصحاب البلاغة، ومذاكرة في المحافل صالحة، إلّا أنّ هذا كلّه مردود بالرعونة والمكر والإيهام والخسّة والكذب والغيبة، وقد كان قرينه بقرميسين يظنّ به خيرا، ويلحظه بعين ما، فلمّا سبره ذمّه وكره أن يعاجله بالصّرف لئلّا يحكم على اختياره بالخطأ، وعلى تصرّفه بالهوى. وللكبراء وذوي القدرة زلّات فاحشة، وفعلات موحشة، ولكن ليس لهم عليها معيّر للخوف منهم، فلمّا تمادى قليلا وجّه ابن وصيف حتى صرفه وقيّده بعد ما وبّخه وفنّده وها هو ذا ألقي ههنا لا يقبل بقبصة، ولا يلتفت إليه بلحظة، ومع ذلك يظنّ أنّ فقر الدّولة إلى نظره كفقر المدنف إلى عافيته.

وله مع طاهر بن محمد بن إبراهيم شرار وقبقبة، وتنديد وشنعة.

وحدّثني ابن أحمد أمس أنّ ابن فارس شارع في أمور خبيثة، وعازم على أشياء قبيحة، ومضرّب بين أقوام ضمّتهم الألفة، واستحكمت بينهم الثّقة، وخلصوا حفظة للدّولة، وحرسا للنّعمة، وعلموا أنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وما أخوفني على إخواننا الذين بهم عذب شربنا، وأمن سربنا، كفانا الله فيهم وكفاهم فينا كلّ مكروه.

فقال: هو أشيق مبعرا، فو أقمأ منظرا، وأذلّ ناصرا من ذاك، والله لو نفخت عليه لطار، ولو هممت به لبار.

وأمّا ما قلت لي أيّها الشيخ إنّه ينبغي أن تكتب رسائلك إلى الوزير، حتى أقف على مقاصدك فيها، وأستبين براعتك وترتيبك بها، فأنا أفعل ذلك في هذه الورقات، ولم أكتب في طول هذه المدة مع هذه الأحوال العجيبة إلّا رقعتين ورسالتين، فأما الرّقعة الواحدة فإنّها تضمّنت حديث الخادم وما عزم عليه، وقد شافهتك به، وأما الأخرى فحوت حديث ابن طاهر وصاحب الرّصافة، وقد سمعته منّي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015