المكان، والشاعر يهزل ويجدّ، ويقرب ويبعد، ويصيب ويخطئ، ولا يؤاخذ بما يؤاخذ به الرّجل الديّان، والعالم ذو البيان.
ولا طرب ابن المهديّ على جارية بنت خاقان المشهورة بعلوة إذا غنّت:
أروّع حين يأتيني الرسول ... وأكمد حين لا يأتي الرّسول
أؤ مّلكم وقد أيقنت أنّي ... إلى تكذيب آمالي أؤول
ولا طرب أبي طاهر بن المقنّعيّ المعدّل على علوان غلام ابن عرس فإنه إذا حضر وألقى إزاره، وقال لأهل المجلس: اقترحوا واستفتحوا فإنّي ولدكم بل عبدكم لأخدمكم بغنائي، وأتقرّب إليكم بولائي، وأساعدكم على رخصي وغلائي، من أرادني مرّة أردته مرّات، ومن أحبّني رياء أحببته إخلاصا، ومن بلغ بي بلغت به، لم أبخل عليكم بحسني وظرفي، ولم أنفس بهما عليكم، وإنما خلقت لكم، ولم أغاضبكم وأنا آملكم غدا إذا بقل وجهي، وتدلّى سبالي، وولّى جمالي، وتكسّر خدّي، وتعوّج قدّي، ما أصنع؟ حاجتي والله إليكم غدا أشدّ من حاجتكم إليّ اليوم، لعن الله سوء الخلق، وعسر الطّباع، وقلة الرّعاية، واستحسان الغدر. فيمرّ في هذا وما أشبهه كلام كثير، فلا يبقى من الجماعة أحد إلا وينبض عرقه، ويهشّ فؤاده، ويذكر طمعه ويفكه قلبه، ويتحرك ساكنه، ويتدغدغ روحه، ويومئ إليه بقبلته، ويغمزه بطرفه، ويخصّه بتحيّة، ويعده بعطيّة، ويقابله بمدحة، ويضمن له منحة، ويعوّذه بلسانه، ويفضّله على أقرانه، ويراه واحد أهل زمانه، فيرى ابن المقنّعيّ وقد طار في الجوّ، وحلّق في السّكاك، ولقط بأنامله النّجوم، وأقبل على الجماعة بفرح الهشاشة، ومرح البشاشة، فيقول: كيف ترون اختياري وأين فراستي من فراسة غيري، أبي الله لي إلّا ما يزينني، ولا يشينني، ويزيد في جمالي، ولا ينقص من حالي، ويقرّ عيني ولبّي، ويقصم ظهر عدوّي، هات يا غلام ذلك الثوب الدّبيقيّ وذلك البرد الشطويّ، وذلك الفرّوج الرّوميّ، وتلك السّكّة المطيّبة، والبخور المدّخر في الحقّة، وهات الدّينار الذي فيه مائة مثقال أهداه لنا أمس أبو العلاء الصّيرفيّ فإنّه يكفيه لنفقة أسبوع، ما أحسن سكّته، وأحلى نقشه! ما رأيت في حسن استدارته شبها، وعجّل لنا يا غلام ما أدرك عند الطّبّاخ، من الدّجاج والفراخ، والبوارد والجوزيّات وتزايين المائدة، وصل ذلك بشراء أقراط وجبن وزيتون من عند كبل البقّال في الكرخ، وقطائف حبش، وفالوذج عمر، وفقّاع زريق، ومخلّط خراسان من عند أبي زنبور، ولو كنّا نشرب لقلنا: وشراب صريفين من عند ابن سورين، ولكن إن أحببتم أن أحضر بسببكم ومن أجلكم فليس في الفتوّة أن أمنعكم من أربكم بسبب ثقل روحي وقلّة مساعدتي، لعن الله الشهادة، فقد حجبتني عن كلّ شهوة وإرادة، وما أعرف في العدالة، إلا فوت الطّلبة والعلالة.