بمن ضل عن سبيله فقد انتهى ركاكة عقله إلى أن لا يفهم المعني بقوله تعالى " إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " وأنه كناية عن نفاذ القدرة وكمالها حتى انجر بهم إلى هذه المخازي، نعوذ بالله من الخزي والفضيحة يوم الفزع الأكبر يوم تكشف الضمائر وتبلى السرائر فيكشف إذ ذاك ستر الله عن خبائث الجهال، ويقال للجاهل الذي اعتقد في الله تعالى وفي صفاته غير الرأي السديد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد.
وأما الكلام فهو قديم، وما استبعدوه من قوله تعالى " فاخلع نعليك " ومن قوله تعالى " إنا أرسلنا نوحاً " استبعاد مستنده تقديرهم الكلام صوتاً وهو محال فيه، وليس بمحال إذ فهم كلام النفس. فإنا نقول يقوم بذات الله تعالى خبر عن إرسال نوح العبارة عنه قبل إرساله: إنا نرسله، وبعد إرساله: إنا أرسلنا، واللفظ يختلف باختلاف الأحوال والمعنى القائم بذاته تعالى لا يختلف، فإن حقيقته أنه خبر متعلق بمخبر ذلك الخبر هو إرسال نوح في الوقت المعلوم وذلك لا يختلف باختلاف الأحوال كما سبق في العلم، وكذلك قوله اخلع نعليك لفظة تدل على الأمر والأمر اقتضاء وطلب يقوم بذات الأمر وليس شرط قيامه به أن يكون المأمور موجوداً ولكن يجوز أن يقوم بذاته قبل وجود المأمور، فإذا وجد المأمور كان مأموراً بذلك الاقتضاء بعينه من غير تحدد اقتضاء آخر. وكم من شخص ليس له ولد ويقوم بذاته اقتضاء طلب العلم منه على تقدير وجوده، إذ يقدر في نفسه أن يقول لولده اطلب العلم وهذا الاقتضاء يتنجز في نفسه على تقدير الوجود، فلو وجد الولد وخلق له عقل وخلق له علم بما في نفس الأب من غير تقدير صياغة لفظ مسموع، وقدر بقاء ذلك الاقتضاء على وجوده لعلم الابن أنه مأمور من جهة الأب بطلب العلم في غير استئناف اقتضاء متجدد في النفس، بل يبقى ذلك الاقتضاء نعم العادة جارية بأن الابن لا يحدث له علم إلا بلفظ يدل على الاقتضاء الباطن، فيكون قوله بلسانه أطلب العلم، دلالة على الاقتضاء الذي في ذاته سواء حدث في الوقت أو كان قديماً بذاته قبل وجود ولده. فهكذا ينبغي أن يفهم قيام الأمر بذات الله تعالى فتكون الألفاظ الدالة عليه حادثة والمدلول قديماً ووجود ذلك المدلول لا يستدعي وجود المأمور بل تصور وجوده مهما كان المأمور مقدر الوجود، فإن كان مستحيل الوجود ربما لا يتصور وجود الاقتضاء ممن يعلم استحالة وجوده. فلذلك لا نقول إن الله تعالى يقوم بذاته اقتضاء فعل ممن يستحيل وجوده، بل ممن علم وجوده، وذلك غير محال. فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى في الأزل آمر وناه، فإن قلتم أنه آمر فكيف يكون آمر لا مأمور له؟ وإن قلتم لا فقد صار آمراً بعد أن لم يكن.