فإن قيل: لو كان الاختصاص بالجهة يوجب التقدير لكان العرض مقدراً، قلنا: العرض ليس في جهة بنفسه، بل بتبعيته للجوهر فلا جرم هو أيضاً مقدر بالتبعية. فإنا نعلم أنه لا توجد عشرة أعراض إلا في عشرة جواهر، ولا يتصور أن يكون في عشرين، فتقدير الأعراض عشرة لازم بطريق التبعية لتقدير الجواهر، كما لزم كونه بجهة بطريق التبعية.

فإن قيل: فإن لم يكن مخصوصاً بجهة فوق، فما بال الوجوه والأيدي ترفع إلى السماء في الأدعية شرعاً وطبعاً، وما باله صلى الله عليه وسلم قال للجارية التي قصد إعتاقها فأراد أن يستيقن إيمانها أين الله فأشارت إلى السماء فقال إنها مؤمنة؟ فالجواب عن الأول أن هذا يضاهي قول القائل: إن لم يكن الله تعالى في الكعبة وهو بيته فما بالنا نحجه ونزوره، وما بالنا نستقبله في الصلاة؟ وإن لم يكن في الأرض، فما بالنا نتذلل بوضع وجوهنا على الأرض في السجود؟ وهذا هذيان. بل يقال: قصد الشرع من تعبد الخلق بالكعبة في الصلاة ملازمة الثبوت في جهة واحدة، فإن ذلك لا محالة أقرب إلى الخشوع وحضور القلب من التردد على الجهات، ثم لما كانت الجهات متساوية من حيث إمكان الاستقبال خصص الله بقعة مخصوصة بالتشريف والتعظيم وشرفها بالإضافة إلى نفسه واستمال القلوب إليها بتشريفه ليثيب على استقبالها، فكذلك السماء قبلة الدعاء، كما أن البيت قبلة الصلاة، والمعبود بالصلاة والمقصود بالدعاء منزه عن الحلول في البيت والسماء ثم في الاشارة بالدعاء إلى السماء سر لطيف يعز من يتنبه لأمثاله، وهو أن نجاة العبد وفوزه في الآخرة، بأن يتواضع لله تعالى ويعتقد التعظيم لربه، والتواضع والتعظيم عمل القلب، وآلته العقل. والجوارح إنما استعملت لتطهير القلب وتزكيته، فإن القلب خلق خلقه يتأثر بالمواظبة على أعمال الجوارح، كما خلقت الجوارح متأثرة لمعتقدات القلوب، ولما كان المقصود أن يتواضع في نفسه بعقله وقلبه، بأن يعرف قدره ليعرف بخسة رتبته في الوجود لجلال الله تعالى وعلوه، وكان من أعظم الأدلة على خسته الموجبة لتواضعه أنه مخلوق من تراب، كلف أن يضع على التراب، الذي هو أذل الأشياء، وجهه الذي هو أعز الأعضاء، ليستشعر قلبه التواضع بفعل الجبهة في مماستها الأرض، فيكون البدن متواضعاً في جسمه وشخصه وصورته بالوجه الممكن فيه وهو معانقة التراب الوضيع الخسيس ويكون العقل متواضعاً لربه بما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015