فهكذا ينبغي أن تفهم الدليل والمدلول ووجه الدلالة وحقيقة النظر ودع عنك ما سودت به أوراق كثيرة من تطويلات وترديد عبارات لا تشفي غليل طالب ولا تسكن نهمة متعطش ولن يعرف قدر هذه الكلمات الوجيزة إلا من انصرف خائباً عن مقصده بعد مطالعة تصانيف كثيرة. فإن رجعت الآن في طلب الصحيح إلى ما قيل في حد النظر دل ذلك على انك تخص من هذا الكلام بطائل ولن ترجع منه إلى حاصل، فإنك إذا عرفت أنه ليس ههنا إلا علوم ثلاثة: علمان هما أصلان يترتبان ترتباً مخصوصاً، وعلم ثالث يلزم منهما وليس عليك فيه الا وظيفتان: إحداهما إحضار العلمين في ذهنك، والثانية التفطن لوجه العلم الثالث منهما. والخيرة بعد ذلك اليك في اطلاق لفظ النظر في ان تعبر به عن الفكر الذي هو احضار العلمين، أو عن التشوف الذي هو طلب التفطن لوجه لزوم العلم الثالث، أو عن الأمرين جميعاً، فإن العبارات مباحة والاصطلاحات لا مشاحة فيها.
فان قلت غرضي أن أعرف اصطلاح المتكلمين وأنهم عبروا بالنظر عماذا، فاعلم أنك إذا سمعت واحداً يجد النظر بالفكر، وآخر بالطلب، وآخر بالفكر الذي هو يطلب به، لم تسترب في اختلاف اصطلاحاتهم على ثلاثة أوجه. والعجب ممن لا يتفطن هذا ويفرض الكلام في حد النظر.
مسألة خلافية: ويستدل بصحة واحد من الحدود وليس يدري أن حظ المعنى المعقول من هذه الأمور لا خلاف فيه وأن الأصطلاح لا معنى للخلاف فيه. وإذا أنت امعنت النظر واهتديت السبيل عرفت قطعاً أن أكثر الأغاليط نشأت من ضلال من طلب المعاني من الألفاظ، ولقد كان من حقه أن يقدر المعاني أولاً ثم ينظر في الألفاظ ثانياً، ويعلم أنها اصطلاحات لا تتغير بها المعقولات. ولكن من حرم التوفيق استدبر الطريق، ونكل عن التحقيق.
فإن قلت: إني لا استريب في لزوم صحة الدعوى من هذين الأصلين إذا أقر الخصم بهما على هذا الوجه، ولكن من أين يجب على الخصم الاقرار بهما ومن أين تقتضي هذه الأحوال المسلمة الواجبة التسليم؟ فاعلم أن لها مدارك شتى ولكن الذي نستعمله في هذا الكتاب نجتهد أن لا يعد ستة: الأول منها: الحسيات، أعني المدرك بالمشاهدة الظاهرة والباطنة، مثاله أنا إذا قلنا مثلاً كل حادث فله سبب، وفي العالم حوادث فلا بد لها من سبب. فقولنا: في العالم حوادث، أصل واحد يجب الإقرار به، فإنه يدرك بالمشاهدة الظاهرة حدوث أشخاص الحيوانات والنباتات والغيوم والامطار ومن الأعراض والأصوات