الأصلين فإنه مستفاد منهما. ومهما أقر الخصم بالأصلين يلزمه لا محالة الاقرار بالفرع المستفاد منهما وهو صحة الدعوى.
المنهج الثاني: أن نرتب أصلين على وجه آخر مثل قولنا: كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو أصل، والعالم لا يخلو عن الحوادث فهو أصل آخر، فيلزم منهما صحة دعوانا وهو أن العالم حادث وهو المطلوب فتأمل. هل يتصور أن يقر الخصم بالأصلين ثم يمكنه إنكار صحة الدعوى فتعلم قطعاً أن ذلك محال.
المنهج الثالث: أن لا نتعرض لثبوت دعوانا، بل ندعي إستحالة دعوى الخصم بأن نبين أنه مفض إلى المحال وما يفضي إلى المحال فهو محال لا محالة. مثاله: قولنا إن صح قول الخصم أن دورات الفلك لا نهاية لها لزم منه صحة قول القائل أن ما لا نهاية له قد انقضى وفرغ منه، ومعلوم أن هذا اللازم محال فيعلم منه لا محالة أن المفضي إليه محال وهو مذهب الخصم. فههنا أصلان: أحدهما قولنا إن كانت دورات الفلك لا نهاية لها فقد انقضى ما لا نهاية له، فإن الحكم بلزوم إنقضاء ما لا نهاية له - على القول بنفي النهاية عن دورات الفلك - علم ندعيه ونحكم به. ولكن يتصور فيه من الخصم إقراراً وإنكار بأن يقول: لا أسلم أنه يلزم ذلك. والثاني قولنا إن هذا اللازم محال فإنه أيضاً أصل يتصور فيه إنكار بأن يقول: سلمت الأصل الأول ولكن لا أسلم هذا الثاني وهو إستحالة إنقضاء ما لا نهاية له، ولكن لو أقر بالأصلين كان الاقرار بالمعلوم الثالث اللازم منهما واجباً بالضرورة؛ وهو الاقرار باستحالة مذهبه المفضي إلى هذا المحال.
فهذه ثلاث مناهج في الاستدلال جلية لا يتصور إنكار حصول العلم منها، والعلم الحاصل هو المطلوب والمدلول، وازدواج الأصلين الملتزمين لهذا العلم هو الدليل. والعلم بوجه لزوم هذا المطلوب من ازدواج الأصلين علم بوجه دلالة الدليل، وفكرك الذي هو عبارة عن إحضارك الأصلين في الذهن وطلبك التفطن لوجه لزوم العلم الثالث من العلمين الأصلين هو النظر؛ فإذن عليك في درك العلم المطلوب وظيفتان؛ إحداهما: إحضار الأصلين في الذهن وهذا يسمى فكراً، والآخر: تشوقك إلى التفطن لوجه لزوم المطلوب من ازدواج الأصلين وهذا يسمى طلباً. فلذلك قال من جرد التفاته إلى الوظيفة الأولى حيث أراد حد النظر أنه الفكر. وقال من جرد التفاته إلى الوظيفة الثانية في حد النظر أنه طلب علم أو غلبة ظن. وقال من التفت إلى الأمرين جميعاً أنه الفكر الذي يطلب به من قام به علماً أو غلبة ظن.