ومنها أن أرضها رمليةٌ لا تصلُح للزراعة، لكنه يأتيها طين أسود عَلك فيه دسومةٌ كثيرةٌ يسمّى الإبليز، يأتيها من بلاد السودان مختلطاً بماء النيل عند مدّه فيستقر الطين وينضب الماء فيُحرث ويزرع، وكلّ سنةٍ يأتيها طينٌ جديد، ولهذا يزرع جميع أراضيها ولا يُراح شيءٌ منها كما يُفعل في العراق والشام، لكنها يخالف عليها الأصناف، وقد لحظت العرب ذلك فأنها تقول: إذا كثرت الرياح جادت الحراثة، لأنها تجيء بترابٍ غريب، وتقول أيضا: إذا كثُرت المؤتفكات زكا الزرع، ولهذه العلة تكون أرضُ الصعيد زكية كثيرة الأتاء والرَّيع إذا كانت أقرب إلى المبدأ، فيحصل فيها من هذا الطين مقدار كثير بخلاف أسفل الأرض، فإنها أسافة مضوية إذا كانت رقيقة ضعيفة الطين، لأنه يأتيها الماء وقد راق وصفا، ولا أعرف شبيها بذلك إلّا ما حُكي لي عن بعض جبال الإقليم الأول، أن الرياح تأتيه وقت الزراعة بتراب كثير، ثم يقع عليه المطر فيتلبَّدُ فيُحرث ويُزرع، فإذا حصد، جاءته رياح أخرى فنسفته حتى يعود أجود كما كان أوّلاً، ومنها أن الفصول بها متغيِّرةٌ عن طبيعتها التي لها فإنَّ أخصَّ الأوقاتِ باليُبس في سائر البلاد، أعني الصيف والخريف تكثر فيه الرطوبة بمصر بمدِّ نيلها وفيضِه لأنّه يمد في الصيف ويطبق الأرض في الخريف.
فأمّا سائر البلاد فأنّ مياهها تنشُّ في هذا الأوان، وتغزرُ في أخصِّ الأوقات بالرطوبة - أعني الشتاء والربيع - ومصر إذ ذاكَ تكونُ في غاية القحولة واليُبس ولهذه العلة تكثر عفونتها واختلافُ هوائها وتغلُب على أهلها الأمراضُ العفنيّة الحادثة عن أخلاطٍ صفراويةٍ وبلغميّة، وقلّما تجدُ فيهم أمراضا صفراوية خالصة، بل الغالب عليهم البلغم حتّى في الشباب والمحرورين، وكثيرا ما يكون مع الصفر
أخام، وأكثر أمراضهم في آخر الخريف وأول الشتاء لكنها يغلبُ عليها حميد العاقبة، وتقلُّ فيهم الأمراض الحادة والدموية الوحية، وأما أصحّاؤُهم فيغلبُ عليهم الترهُّل والكسل وشحوب اللون وكمودته، وقلَّما ترى فيهم مشبوبَ اللونِ ظاهر الدَّم، وأما صِبيانُهم فضاوون يغلب عليهم الدَّمامةُ وقلَّة النضارة وإنّما تحدثُ لهم البدانةُ والقسامة غالبا بعد العشرين.
وأما ذكاؤهم وتوقُّدُ أذهانهم وخفَّة حركاتهم، فلحرارة بلدِهم الذاتية لأنَّ رطوبته عرضية، ولهذا كان أهل الصعيد أفحل جسوماً وأجفُّ أمزجة، والغالب عليهم السمرة وكان ساكنو الفسطاط إلى دمياط أرطب أبداناً، والغالب عليهم البياض،