ووجدنا من سور المدينة قطعة صالحة مبنية بالحجارة الصِّغار والطوب، وهذا الطوب كبير جافّ متطاولُ الشكل ومقداره نصف الآجر الكسرى بالعراق، كما أن طوب مِصر اليوم نصف آجر العراق اليوم أيضا.
وإذا رأى اللبيب هذه الآثار عذر العوامّ في اعتقادهم عن الأوائل بأنّ أعمارهم كانت طويلة وجثثهم عظيمة أو أنّه كان لهم عصاً إذا ضربوا بها الحجر سعى بين أيديهم، وذلك أنّ الأذهان تقصُر عن مِقدار ما يُحتاجُ إليه في ذلك من علم الهندسية واجتماع الهمّة وتوفّر العزيمة ومصابرةِ العمل والتمكّنِ مِن الآلات والتفرُّغ للأعمال والعلم بمعرفة أعضاء الحيوان وخاصّة الإنسان ومقاديرها، ونسب بعضها من بعض، وكيفية تركيبها ونصباتها ومقادير وضع بعضها من بعض، فإن النصف الأسفل من الإنسان أعظم من النصف الأعلى منه أعني التنوُّر بمقدارٍ معلوم، بخلاف سائر الحيوان، والإنسان المعتدل طوله ثمانية أشبارٍ بشبر نفسِه وطول يده إلى طيِّ مرفقه شبران بشبره وعضده شبر وربع وهكذا جميعُ عظام الصغار والكبار والقصب والسناش والسلاميات حافظة للنظام في مقاديرها ونِسَب بعضها إلى بعض، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة كانخفاض اليافوخ عن ذروة الرأس ونتوئه عمّا دونه، وامتداد الجبهة والجبينين وتطامن الصدغين، ونتوء عظمي الوجنتين وسهولة الخدين، وانخراط الأنف ولين المارن وانفراج المنخرين، وامتداد الوتر ودقة الشفتين واستدارة الحبك وانخراط الفكين، وغير ذلك ممّا تضيقُ عنهُ العبارة، وإنما يُدرك بالمشاهدة وبالتشريح والتأمُّل، وقد ذكر أرسطوطاليس فصلاً في المقالةِ الحادية عشرة من كتاب الحيوان له، يدل على أنّ القوم كان لهم حَذاقةٌ وإتقان لمعرفة أعضاء الحيوان وتناسبها، وأنَّ جميع ما
أدركوه وإِن جَلّ فهو حقيرٌ تافه، بالقياس إلى الأمر الحقيقي المطبوع، وإنّما يستعظمُ ما عرفه الإنسان منه بالقياس إلى ضعف قوَّته وبالقياس إلى باقي نوعه ممّن يعجز عمّا قدر عليه، كما يتعجَّب من النملة إذا حملت حبَّةَ شعير ولا يتعجَّبُ من الفيل إذا حمل قناطير، وهذا نصُّ كلامه بإصلاحي قال: من العجب أن نستحبَّ علم أحكام التصاوير وعمل الأصنام وإفراغها ونتبين حكمته، ولا نستحبُّ معرفة الأشياء المقوّمة بالطبيعة، ولا سيما إذا قوينا على معرفة عللها، ولذلك لا ينبغي لنا أن نكره النظر في طِباع الحيوان الحقيقي الذي ليس بكريم،