ففعلوا فخرب سور المدينة فدخلوها، فأمرتهم العجوز أن يقتلوا على دم يحيى ابن زكريا، حتى يسكن. فلم يزل يقتل حتى قتل سبعين ألفاً فسكن الدم. فأمرته بالكف فكف. وخرب البيت المقدَّس وأمر أن تلقى فيه بالجيف وعاد.
وكانت هذه المرة بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، ولم يزل خراباً إلى أن عمرته هيلاني أم قسطنطين. وحكى أصحاب تواريخ الروم: أن سبب عمارتها له أن والدها قسطنطين لما صار الملك إليه طوعت له نفسه أن يبني مدينة يجعلها مقر ملكة، ومركز سلطانه، فخرج من " رومية "، وسار إلى أرض بوزنطا فبنى فيها مدينة، وسماها " القسطنطينية " باسمه وصار يغير على بلاد برجان لما جاورهم، فكانت الحرب بينهم وبينه سجالا، نحواً من سنة، إلى أن كانت عليه. فقتل من أصحابه خلق كثير، وخاف البوار. فرأى في النوم كان رماحاً نزلت من السماء، فيها عذب وأعلام على رؤوسها صلبان من الذهب والفضة والحديد والنحاس. وقيل له: خذ هذه الرماح وقاتل بها عدوّك تنصر.
فجعل يحارب بها في النوم، فرأى عدوه منهزماً بين يديه فاستيقظ من رقدته، ودعا بالرماح، وركب عليها صلباناً ورفعها على عسكره، وزحف على عدوّه فكسره.
وسار إلى بيعته وسأل عن تلك الصبان، وهل تعرفون ذلك في شيء من الآراء والملك، فقيل له أن بيت المقدس مجمع لهذا المذهب. فبعث إلى بيت المقدس وأحضر ثلاثمائة وثلاثة عشر أسقفاً فعرفوه دين النصرانية، فرجع إليه وترك اليونانية، وأمر رعيته بمتابعته على النصرانية.
ثم خرجت أمة هيلاني إلى الشام، وبنت الكنائس، وصارت إلى بيت المقدس فبنته، وعمرته، وزخرفته، وطلبت الخشبة التي صُلب عليها المسيح، بزعمهم، فحلتها بالذهب. واتخذت لوجودها عيداً وهو عيد الصليب.
هنا انتهى بنا القول في بناء البيت المقدس قبل ظهور ملَّة الاسلام. وسنذكر ما جدّده فيه خلفاءُ بني أمية، والعبيديون، أصحاب مصر عند ذكرنا لمزارات الشام - إن شاء الله تعالى -.
والصفة التي عليها في عصرنا أنها على جبل يصعد إليها من كل جانب وهي طويلة.
وفي طرفها الغربي: " باب المحراب "، وهذا الباب عليه قبة داود عليه السلام.
وفي طرفها الشرقي: " باب الرحمة "، وهو مُغلق لا يفتح إلاّ من عيد الزيتون إلى مثله.
ولها في جهة الجنوب: باب يسمى " باب صهيون ".
ومن الشمال: باب يسمى " باب الغُراب ". ومتى دخل الداخل من باب المحراب يسير نحو المشرق في زقاق شارع إلى الكنيسة العظمى المعروفة بكنيسة القيامة، والمسلمون يسمونها قمامة وهي من عجائب الدنيا بناءً.
قال البلاذري: " قدم أبو عبيدة على عمرو بن العاص وهو يحاصر إيليا في سنة عشرة، فطلب أهلها من أبي عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صُولح عليه أهل مُدن الشام من أداء الجزية والخراج على أن يكون متوالي العقد لهم عمر بن الخطاب بنفسه. فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك. فسارع عمر رضي الله عنه، حتى نزل " بالجابية " من دمشق، ثم صار إلى إيليا فأنفذ صلح أهلها، وكتب لهم بذلك ". وذلك في سنة سبع عشرة.
ولم تزل بعدُ في الولاية على ما قررناه في غيرها من البلاد المضافة إلى الأجناد.
فلما صارت إلى المستنصر صاحب مصر خرج أتسز بن أوقى التركي فقصد أرض فلسطين فملك الرَّملة، وبيت المقدس من نوابه سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
وبقيت في يده إلى أن خرج بدر المستنصري في سنة خمس وستين فاستعاد الرملة والقدس وولى فيهما من قبله. ثم عاد إلى مصر في سنة ست، فعاد أتسز إلى القدس فملكه في بقية السنة.
ولم يزال في يده إلى أن قصد مصر بعسكره، فكسر في رجب سنة تسع وستين وعاد منهزماً إلى دمشق. فجمع، وخرج إلى القدس وكان من فيه وثبوا على من عندهم من الأتراك من أصحابه، فقتلوا أكثرهم، والتجأ من بقي منهم إلى محراب داود فتحصنوا به. وأقاموا حتى وصل أتسز إلى القدس فراسلهم في الدخول في الطاعة فأبوا فنازلهم في شعبان؛ وأقام مدة يحاصرهم إلى أن فتح له القيم محراب داود، فدخل المدينة بالسيف، وقتل عامة أهلها واستمر القتل فيها ثلاثة أيام، ولم يبقى منهم إلاّ من استجار بالصخرة والمسجد الأقصى.