وأقام فخر الملك بباب السلطان إلى أنس من نصرته، وبلغه رجوعُ أطرابلس إلى المصريين، ونقل حريمه وأمواله وذخائره وسلاحه، فانكفأ راجعاً إلى دمشق. فدخلها في النصف من المحرم سنة اثنتين وخمسمائة، فأكرمه وأحسن لقياه، وسأله أن يعينه إلى الوصول إلى " جلبة " فأجابه، وسير معه عسكرا إليها فدخلها.
ولم تزل الفرنج على أطرابلس مجدين في حصارها، وأهلها يتكرر استصراخهم إلى الملوك ولا يجابون، وضعفوا عن مدافعة العدو وممانعته.
وعمل الفرنج أبراجاً وأسندوها إلى السور، وأشرفوا بها على البلد وأوصلوا منها النكاية إلى كل أحد، فطلبوا الأمان فأجيبوا.
واستعجل بعض الجند في النزول إلى البر قبل إحكام عَقد الأيمان، فدخل الفرنج من حيث خرج الجندي، فقتلوا وسبوا من كان فيها، وأخذوا ما لا يحصى من السلاح والمال. وذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة بعد أن حاصروها سبع سنين وأربعة أشهر.
ولم تزل في أيديهم - خذلهم الله - إلى أن ملك مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس بلاد مصر والشام، فشن عليها الغارات مرة بعد أخرى، إلى أن نزل عليها في شوال سنة تسع وستين. وملكها حينئذ البرنس بيمند صاحب أنطاكية، فصالحه ودخل تحت طاعته، وناصفه على جميع ما في يده من البلاد.
وسيأتي ذلك مفصلاً.
حصن ابن عكار - وحصن الاكراد - وشقيف تيرون فأما حصن ابن عكار فطوله سبعون درجة وعشرون دقيقة، وعرضه أربع وثلاثون درجة وخمس عشرة دقيقة.
ويغلب على ظني أنه محدث البناء، لأني لم أجد له ذكراً فيما طالعته من كتب التواريخ المتقدمة في التأليف. والذي وصل علمي أليه، ووقف اطلاعي عليه، أن بانيه محرز بن عكار، ولم يزل في يد عقبة إلى أن ملكه منهم أسدُ الدولة صالح بن مرداس في سنة " ست " عشرة وأربعمائة.
ولم يزال في يده إلى أن قتل على " الأقحوانة " بالأردن في سنة عشرين وأربعمائة، فاستولى عليه متولّي أطرابلس من قبل الظاهر ابن الحاكم صاحب مصر.
ولم تزل بأيدي نواب العُبيديين إلى أن تغلبت التركُ على الشام، وملك تاج الدولة تتش دمشق، فاستولى عليه. وصار في أيديهم إلى أن سلمه ظهير الدين طغتكن الأتابك للفرنج سنة ثلاث وخمسمائة، مصانعة، بعد أن ملكوا أطرابلس وعجز عن دفعهم عن البلاد المجاورة لدمشق.
ووقعت بينهم الهدنة على أن يكن حصن مصياف وحصن الأكراد، داخلين في الموادعة، ويحمل أهلها مالا معينا في كل سنة على الفرنج فأقاموا على ذلك مدة يسيرة ثم غدروا وعادوا إلى عادتهم من العيث والفساد.
وأما حصن الأكراد فحكى منتجب الدين يحيى بن أبي طيء النجار الحلبي في تاريخه، في سبب نسبته إلى الأكراد: أن شبل الدولة نصر بن مرداس صاحب حمص أسكن فيه قوما من الأكراد في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة فنسب إليهم، وكان من قبل يسمى " حصن السفح ". طوله سبعون درجة وخمس وعشرون دقيقة، وعرضه أربع وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة.
ولم أطلع بعد سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة على شيء من أخباره إلى أن كانت أيام الأتابك ظهير الدّين طغتكن بدمشق، وقعت الهدنة التي قدمنا ذكرها.
ثم خرج بعدها طنكريد صاحب إنطاكية في حشده وجنده، فنزل على حصن الأكراد، فتسلمه من أهله في بقية سنة ثلاث وخمسمائة.
ولم تزل الفرنج في هذا الحصن غير مكترثين بالجيوش، ولو كانوا في أكثر من القطر عدداً. وأغزر من البحر مدداً. يشنون منه الغارات. ويدركون الثارات. ويتوقلون منهما في الرافعة برجيْ سماء. ويتسلطون بهما على استنزال مولانا السلطان الظاهر، فأنهد إليهما عزمات تُباري الرياح الهوج. ويقصر عمّا يناله أيدي فتكاتها عوج. فأوطأ غوريهما ونجديهما رجاله وخيله. ودأب في قتالهما نهاره وليلة. حتى أخذ من فيه بالنواصي. وأنزلهم من أحسن القلاع والصياصي.
شرح الحال في ذلك: نزل - أيده الله بنصره - على حصن الأكراد، يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب، ونصب أسواره المجانيق. وكانت له ثلاث أسوار وثلاث باشورات وواصل الحصار إلى أن هدم الأسوار يوم الأربعاء العشرين من الشهر.
ثم أخذت إحدى الباشورات في الحادي والعشرين، وتأخر ما بقي منها لترادف الأمطار، إلى أن فُتحت الثانية، يوم السبت سابع شعبان، وتعرف " بالحدادية ".