هي مدينة على جبل، ولها قلعة محكمة البناء عليها سور مبني بالحجر الصلد سعته عشرون شبراً وبها بئر يسمّى " بئر الرحمة "، لا ينبع الماء فيه إلا إذا أغلق بابها وانقطع الماء عنها، وفي حال دخول الماء إلى القلعة لا يرى فيها ماء قطّ. والماء يشق البلد والقلعة ويدخل دورها، وعليه أرحاء. بها من عجائب المباني الملعب وهو الهيكل الذي كان فيه المسمّى بعل المذكور في الكتاب العزيز. طالعها الميزان والزهرة. طولها ثمان وستون درجة وعشرون دقيقة عرضها ثلاث وثلاثون درجة وخمس وأربعون دقيقة؛ ساعة بنائها الزهرة.
قال البلاذري: " ولماّ فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمرّ ببعلبك، فطلب أهلها الأمان والصلح، فصالحهم على أن أمنهم على نفوسهم وأموالهم وكنائسهم فكتب لهم: " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان ابن فلان، وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها، على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ودورهم وكنائسهم داخل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم. وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلاً. ولا " ينزلوا " قرية عامرةً. فإذا مضى شهر ربيع الآخر وجمادى الأول ساروا إلى حيث شاءوا. ومن أسلم منهم، كان له ما لنا وعليه ما علينا. ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث شاءوا من البلاد التي صالحنا عليها وعلى من أقام منهم الجزْية والخراج.
شهد الله وكفى بالله شهيداً " لم تزل بعلبك يليها نواب من يلي دمشق من الأمراء منذ فتحت إلى أن صارت في أيدي نواب المعزّ صاحب مصر، لماّ ملك دمشق في سنة إحدى وستين وثلاثمائة. ولم تزل في أيديهم إلى أن نزل عليها الشمشقيق متملّك الروم وأخذها وأخرجها، ثم رحل عنها وذلك في سنة أربع وستين وثلاثمائة.
فعاد إليها نواب المصريين بدمشق فعمروها؛ ولم تزل بأيديهم إلى أن قصدها صالح بن مرداس وتغلب عليها وعلى ما جاورها من البلاد سنة ست عشرة وأربعمائة ولم تزل في يده إلى أن قتل على " الأقحوانة " من الأردن، سنة عشرين في وقعةٍ كانت بينه وبين القائد أنوشتكين الدّزبري وصارت إلى المتولي على دمشق من قبل المصريين.
ولم تزال في أيديهم إلى أن تغلب عليها مسلم بن قريش لما قصد دمشق، وحاصرها، وترك فيها عود بن الصيقل وأقطعه البقاع.
فلما رجع مسلم من أعمال دمشق إلى بلاده خرج عود ابن الصيقل إلى بعض ضياع بعلبك فكبسه تاج الدولة تُتُش وأخذه أسيراً، وتسلم منه بعلبك، وولّى فيها مملوكه فخر الدولة كمشتكين الخادم، وذلك في سنة ست وتسعين وأربعمائة. وبقي فيها إلى أن مات تاج الدولة.
وولي بعده ولده شمس الملوك دُقاق فأقره عليها ولم يزل بها إلى أن مات شمس الملوك وولي بعده أخوه أرتاش دمشق فأقره عليها، وبقيت في يده إلى أن خرج من دمشق إلى بعلبك لأمر استشعره من ظهير الدين أتابك طغتكين - كما حكيناه في أمراء دمشق - ثم ولي أتابك طغتكين دمشق استقلالاً فأقرّه عليها فلما كانت سنة ثلاث وخمسمائة اتصل بظهير الدين أتابك أن كمشتكين التاجي راسل الفرنج وحملهم على الغارات والفساد في بلاد دمشق، وأنه سير أخاه باي تكين إلى دركات السلطان في التوصل في فساد حاله عند السلطان.
فسار ونزل على بعلبك وأرسل إلى كمشتكين، ولاطفه، ووعده، فأصر على العصيان، فقاتلها حتى تسلمها في الثاني والعشرين من رمضان من السنة المذكورة. وصفح عن كمشتكين. وعوّضه عن بعلبك صرخد وولى فيها من قبله.
ولما مات طغتكين، وولي ولده تاج الملوك بوري، أعطى بعلبك لولده جمال الدين محمد، ولم تزل في يده إلى أن قتل أخوه بدمشق في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شوّال سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
فسار جمال الدين إلى دمشق فملكها وأعطى بعلبك معين الدين أنر فولى فيها من قبله فقصدها عماد الدين زنكي ونصب عليها المجانيق إلى أن ملكها يوم الخميس ثالث عشر من صفر سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. ودامت في يده إلى أن قتل على " قلعة جعبر " ليلة الأحد السادس من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.
فاسترجعها معين الدّين أنر وسلّمها إلى الحاجب شجاع الدَّولة عطاء الخادم، فأقام فيها إلى أن قتله مجير الدين أبق ابن جمال الدّين، في سلخ ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بدمشق.