فأمّا خلق أهلها فهم أحسن الناس وجوهاً وأجساماً والأغلب على ألوانهم الدرّيّة والحمرة والسمرة وعيونهم سود وشهل وهم أحسن الناس أخلاقاً وأتمّهم قامةً. وذكر كلاماً كثيراً لا يليق بما نحن بصدده أضربنا عنه وعلى كلّ حال فإنها أعظم البلاد جمالاً وأفخرها رتبة وجلالاً مشهرة الفخار عالية البناء والمنار ظلّها ضاف وماؤها صاف وسعدها واف ووردها لعليل النفوس شاف وأنوارها مشرقة وأزهارها مؤنقة وأنهارها غدقة وأشجارها مثمرة مورقة نشرها أوضع من نشر العبير وبهجتها أبهج منظراً من الزمن النضير خصيبة الأرزاق جامعة من أشتات الفضائل ما تعجز عنه الآفاق لم تزل منهلاً لكلّ وارد وملجأ لكل قاصد يستظلّ بظلّها العفاة ويُقصَد خيرها من كلّ الجهات لم تَرَ العيون أجمل من بهائها ولا أطيب من هوائها ولا أحسن من بنائها ولا أظرف من أبنائها فلله درّ سعد الدين محمّد بن الشيخ الإمام محيي الدين محمّد بن عليّ بن العربيّ الطائيّ الحاتميّ رحه حيث يقول حين حلّ بفنائها وشاهد ما يقصر عنه الوصف من محاسن أبنائها:

حَلَبٌ تَفُقُ بِمائِها وَهَوائِها ... وَبِنائِها وَالزُهْرِ مِنْ أَبنائِها

نُورُ الغَزالّةِ دُونَ نورِ رَحابِها ... وَالشهْبُ تَقْصُرُ عَنْ مَدا شُهْبانِها

طَلَعَتْ نُجُومُ النَصرِ مِن أَبْراجِها ... فِبُرُوجُهأ تَحْكي بُرُوجَ سَمائِها

وَالسُورُ باطِنُهُ فَفِيهِ رَحْمَةٌ ... وَعَذابُ ظاهِرِهِ عَلَى أعْدائِها

بَلَدٌ يَظَلُّ بِهِ الغَرِيبُ كَأنَّهُ ... فِي أهْلِهِ فاسْمَعْ جَمِيلَ ثَنائِها

وقد مدحها جماعة من الفضلاء ومن هو معدود من أكابر العلماء مثل البحتريّ والمتنبيّ والصنوبريّ وكُشاجِم والمعرّيّ والخفاجيّ وابن حَيّوش والوزير المغربيّ وأبو العبّاس الصفريّ وأبو فراس والحَلَويّ وابن سَعْدان وابن حرب الحلبيّ وابن النحّاس وابن أبي حصينة وابن أبي الحديد وابن العجميّ والملك الناصر. فمّما قاله البحتريّ:

أَقامَ كُلُّ مُلِثِّ الوَدْقِ رَجَّاسِ ... عَلَى دِيارٍ بِعُلْوِ الشَأْمِ أَدْراسِ

فِيها لِعَلْوَةَ مَصْطافٌ وَمُرْتَبَعُ ... مِنْ بانَقُوسا وَبابِلاّ وَبِطْياسِ

مَنازِلٌ أَنْكَرَتْنا بَعْدَ مَعْرِفَةٍ ... وَأُوحِشَتْ مِنْ هَوانا بَعْدَ إِيناسِ

يا عَلْوَ لَوْ شِئْتِ أَبْدَلْتِ الصُدُودَ لَنا ... وَصْلاً وَلانَ لِصَبٍّ قَلْبُكِ القاسي

هَلْ ِلي سَبِيلٌ إِلَى الظُهْرانِ مِن حَلَبٍ ... وَنَشْوَةٍ بَيْنَ ذاكَ الوَرْدِ وَالآسِ

وله من أبيات:

نَاهِيكَ مِنْ حُرَقٍ أَبِيتُ أُقاسِي ... وَجُرُوحَ حُبٍّ ما لَهُنَّ أَواسِ

تَجْرِي دُمُوعِي حِينَ دَمْعِكَ جامِدٌ ... وَيَلِينُ قَلْبِي حِينَ قَلبُكَ قاسِ

يا بَرْقِ أَسْفَرَ عَنْ قُوَيْقَ فَطُرَّتْي ... حَلَبٍ فَأعْلَى القَصْرِ مِنْ بِطْياسِ

عَنْ مَنْبَتِ الوَرْدِ المُعَصْفَرِ صِبْغُهُ ... فِي كُلِّ ضَاحِيَةٍ وَمَجْنَى الآسِ

أَرْضٌ إِذا استَوْحَشْتُ ثُمَّ أَتَيْتُها ... حَشَدَتْ عَليَّ فَأَكْثَرَتْ إِيناسي

ومما جاء في شعر المتنبّي في ذكر حلب:

كُلَّما رَحَّبَتْ بِنا الرَوْضُ قُلنا: ... حَلَبٌ قَصْدُنا وَأَنْتِ السَبيلُ

فِيكَ مَرْعَى جِيادِنا وَالمطَايا ... وَإِلَيْها وَجِيفُنا وَالذَمِيلُ

وَالمُسَمُّونَ بِالأَمِيرِ كَثِيرٌ ... وَالأَمِيرُ الَّذِي بِها المأْمُولُ

الَّذي زُلْتُ عَنْهُ شَرْقًا وَغَرْباً ... وَنَداه مُقابِلِي مَا يَزُولُ

وممّا قاله أبو بكر أحمد بن الحسن الصنوبري في وصفها الأبيات الطنانة التي يصف فيها حلب وقراها ومنازلها ومتنزهاتها:

أَحبَسا العِيسَ اْحَبساها ... وَاْسأَلا الدارَ اسْأَلاها

أَسْأَلا أَيْنَ ظِباءُ الد ... ارِ أَمْ أَيْنَ مَهاها

حَبَّذا الباءَتُ باءَا ... تُ قُوَيْقٍ وَرُباها

بانَقُوساها بِها با ... هَى المُباهِي حِينَ باها

وبِبا صَفْراوبابِ ... لاّ وَبامضتْلِي وَتاها

لا قَلَى صَحْراءَ بافر ... قل شوقي لا قلاها

لا سَلا أَجْبالَ باس ... لِّينَ قَلْبي لا سَلاها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015