ولما نزل هولاكو على حلب واستولى عليها وهرب الملك الناصر من دمشق قاصدا مصر مرض الملك السعيد مرضا أشرف منه على التلف، ثم بل، وبعث إلى هولاكو يطلب منه الأمير سابق الدين بلبان، فبعث به إليه، وكان قد استماله في مدة مقامة عنده، فلما اجتمع بالملك السعيد أخبره ما لقي أهل حلب من القتل والسبي والفتك ليخوفه، وأشار عليه بتسيير هدية أخرى، فسيره وأصحبه عز الدين ابن بطة بهدية، فلما وصلا إليه وجداه على عزاز، وقد عاد من حارم، فاجتمعا به، وقدما له الهدية، وأشار عليه ساب الدين أن يستميل عز الدين ابن بطة، فاستدعاه سرا، وقال له: اقض لي حاجة أقض لك ألف حاجة. قال: ما هي؟. قال: أريد منك أن تعرفني هل الملك السعيد مريض حقيقة أم متمارض؟. فقال له: كان متوعكا، وازداد مرضه عند أخذك حلب ثم عوفي فقال: إذا ألزمته بالمجيء، تعلم أنه يفعل؟! قال له ما يفعل أصلا. فقال: لأي سبب؟. قال: لأشياء كثيرة منها: - إنكم لا تفون لأحد، ولا تقفون عند كلام تقولونه.
- وإنكم تكلفونهم مالا تطيقه نفوسهم.
- وقد تحقق أنه متى نزل إليك قتلته!!.
قال: فإن قصدته أيقدر أن يمنع نفسه مني؟! قال: نعم. قال: بأي شيء؟. قال: بحصانة قلعته، وما فيها من الذخائر والأقوات، فإنه ادخر فيها قوت أربعين سنة!!.
فلما فرغا من الكلام أعطاه بالشت وزنة سبعمائة مثقال، وثيابا.
فلما أصبح استدعاه الأمير سابق الدين وكتب لهما جوابا مضمونه: إني قد أعفيتك من النزول، فطيب قلبك ".
ثم اجتمع بسابق الدين سرا، واتفق معه على استفساد من في ماردين من أكابر أهله وأعيانها وأمرائها وأجنادها. وكتب لهم فرمانات، وألزمه بتكفل ذلك. فأشار عليه أن يسير معه الملك المظفر ابن الملك السعيد ليطمئن قلبه بذلك، ويسكن جأشه، فأجابه بتلك الوسيلة إلى ما طلب، فسيره معهما، فلما وصلا أديا الرسالة.
ثم خلا عز الدين بالملك السعيد، وعرفه ميل سابق الدين إلى هولاكو وأنه عليه لا له، وأن التتر لابد لهم من قصده، ففت ذلك في عضده.
وكان قد سير سابق الدين بلبان - المذكور - بهدية أخرى وجواب يعتذر فيه. وبعد انفصاله خلا الملك السعيد بعض غلمانه، وعرفه ما هو عليه سابق الدين من الميل مع هولاكو، وأنه متى اجتمع به أفسد عليك الأحوال، فالمصلحة أن تمسكه، ووافق ذلك ما نقله عز الدين عنه، فسير في طلبه على أنه يحمله رسالة في أمر تجدد بعد سفره ليقبض عليه.
وكان في خدمة الملك السعيد أمير يقال له: أسد الدين البخي، وكان قد وصله فرمان على يد سابق الدين - المذكور -، فاطلع على ما عزم عليه الملك السعيد من قبضه، فسير إليه غلاما له عجلا، بحيث إنه ركب فرسا عريا، ولحقه إلى دنيسر وعرفه رأي الملك السعيد فيه، وأنه متى وصل قبض عليه فلحق بهولاكو ولم يعد إليه.
وتحقق الملك السعيد أن التتر لابدّ لهم من قصده، فاستعد لقتالهم، ونقل ما كان في البلد من الذخائر إلى القلعة. ثم بعد ذلك بأربعة أيام وصلت رسل من هولاكو وعلى أيديهم هدية للملك السعيد. ثم وصل عقيبهم عسكر غنزل على ماردين في ثالث جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وستمائة، ولم يقاتلها ستة عشر يوما. ويقال: إن هولاكو كان معهم ليشرف على القلعة، ويرى ما هي عليه من الحصانة، ورحل في طائفة من أصحابه. ولما انقضت هذه المدة وصل ابن قاضي خلاط من هولاكو إلى الملك السعيد برسالة مضمونها يلتمس منه أن يفتح أبواب البلد ليدخل عسكره يستمير منها الأقوات والعلوفات أياما قلائل ويرحلون عنها. فأذن لهم، فدخلوها وترددوا في الدخول والخروج. فلما كان اليوم الثاني والعشرون من جمادى الأولى، وقت العصر، صعد التتر على أسوار البلد ودقوا طبولهم، وجردوا السيوف، وهجموا البلد، فقاتلهم أهلها، ودربوا شوارعهم، ودام قتالهم ثلاثة سنين يوما، إلى أن فتح لهم بعض مقدمي البلد دربا فملكوه، ودخلوا منه إلى الجامع، وصعدوا المنائر، ورموا منها بالنشاب، فضعف أهل البلد عن حفظ الدروب، واحتموا بالكنائس، لباطن كان لأصحابها مع التتر. وإنجاز أكثرهم إلى القلعة، فملكت التتر البلد، وأخذوا في قتال القلعة، ثم نصبوا المجانيق، وكانت عدتها ستة، فلم يصل إلى القلعة منها سوى ثلاثة أحجار، واستمر الحصار إلى أن خلت سنة ثمان ودخلت سنة تسع وخمسين وستمائة.