وعمّر في سوري آمد وميافارقين مواضع عديدة.
وبنى الجسر في أول ولايته - كما تقدم -.
" وبقي نظام الدين إلى سنة اثنتين وسبعين وأربع مائة ومات في ميافارقين في ذي الحجة منها، فكانت ولايته ثلاثين سنة وأشهرا.
ووقعت الصيحة بموته، فأحضر الوزير أبو طاهر الأنبا ري ولده ناصر الدولة، وكان ولي عهده، وأحضر العلماء والمنجمين، وكان فيهم رجل من أهل بغداد، عالم يسمى ابن عيشون فحكم له أن جلوسه يكون بعد ثلاثة أيام. فغسل الأمير وكفن، وترك في التابوت ثلاثة أيام، فيقال: إن الفأر أكلت عينيه ".
فلما كان في اليوم الرابع حضر ناصر الدولة وجلس على التخت، وسلم عليه الوزير بالإمرة، وكذلك أعمامه وبنو عمه، وأهل بيته ودولته، وخوطب بالإمارة، ووسم الملك، وحضر القاضي والعلماء والشعراء - على العادة - وأُنشدت قصائد الهناءة. ثم نهض ودخل الحجرة، والوزير معه وأهل بيته ولبث ساعة، ثم خرج الوزير، وقد شق ثيابه، وشوَّش عمامته، وكذلك الأمير، ولبس ثياب العزاء، وجلس على الأرض، وحضر القرَّاء والشعراء وأُنشدت المراثي.
وكان قد مات في ذلك اليوم رجل زاهد من أهل ميافارقين يُعرف بابن خلف، وكان في مسجد قريب القصر. وكان أولا من أكابر أهل البلد، فرسم الأمير بدخول جنازته إلى القصر، ليصلي عليه وعلى الأمير، فدخلت الجنازة وصلى عليهما، وخرجت الجنازتان من باب الهوة وأدخل نظام الدين التربة فدُفن عند أبيه في القبة.
ولم يكن دخول الجنازة إلى القصر مباركا على ناصر الدولة.
وخلّف نظام الدين من الأولاد الأمير ناصر الدولة - ولي عهده - والأمير بهرام والأمير أحمد صغيرا، والست قان، زوَّجها بالأمير المجاهد أبي القاسم هبة الله ابن موسك - صاحب بدليس - فمات، ولم يدخل بها، فتزوجها أخوه أبو عبد الله محمد بن موسك فدخل بها، وماتت عنده ولم يعقب.
وقيل: إن ابن عيشون - المنجم - كان عند نظام الدين في سنة سبعين ليلة من الليالي في المنظرة العتيقة يشرب عند الأمير فخرج في أثناء الليل، فنظر إلى المدينة وإشراق سورها في ضوء القمر والربض وعمارة البساتين محيطة بها فعاد إلى نظام الدين وقال: يا مولانا ما أحسن هذا البلد وأعمره؟! لكن طالعه يقضي أنه بعدك يستولي عليه الخراب والظلم والجور، فلا يزال كذلك نيفا وثمانين سنة فكان ما قاله. وذلك أنه بعد نظام الدين خرجت البلاد من يد ناصر الدولة وخربت ميافارقين وسيأتي.
واستقر ناصر الدولة في الملك والوزير ابن الأنبا ري مدبر الدولة، فساسها أحسن سياسة مدة.
ثم إنه تقدم الأمير ناصر الدولة رجل طبيب وكان له حانوت بسوق العطارين وارتفعت منزلته عنده، وتقدمت زوجته عند زوجة الأمير، فلم يزل يتقدم إلى أن قبض الوزير أبو طاهر وولي الأمور جميعها.
وكان الوزير فخر الدولة، ابن جهير قد عُزل عن وزارة الخليفة، وولي ولده، ووزر للمقتدر.
كان الوزير فخر الدولة ابن جهير بعد عزله عن وزارة الخليفة قد قصد دركاه السلطان ملكشاه، فبلغه اختلاف بني مروان، وولاية أبي سالم الطبيب، فتحدث مع خواجه وضمن له أخذ البلاد، وتحصيل الكثير من الأموال، فتقدم السلطان إلى الأمير أرتق أحد الأصحاب، وجهز معه العساكر، والوزير فخر الدولة ابن جهير مقدم عليهم، وقصدوا ديار بكر، فلما تحقق ناصر الدولة الحال سلم البلد إلى أبي سالم الطبيب وزوجته، وأمر أهل البلاد بطاعته، وأخذ معه جماعة وقصد السلطان بإصبهان ونزلت العساكر، وتفرقت بديار بكر ومضر.
وسير الوزير فخر الدولة ولده زعيم الدولة إلى آمد بعسكر، ونزل الوزير على ميافارقين في سنة سبع أو ثمان وسبعين وأربعمائة وحاصرها، وقطع المياه عنها، وضايقها أشد مضايقة، وحوصرت ديار بكر بأسرها.