بأدائه رأيته غضًا طريًا وجديدًا، ورأيته وصادفت من نفسك له نشاطًا مستأنفًا وحسًّا موفورًا، هذا القرآن بما فيه من ترسيل واتساق وتطويل مع أنه لا يُضبط بحركات وسكنات كأوزان الشعر فتجعل له بطبيعتها صفة من النظم الموسيقي، ولا يخرج على مقاطع الكلمات التي تجري فيها الألحان ودروب النغم، مما يسهل تأليفه ويكون أمره إلى الصوت هو طريقة تصريفه وتوقيعه، إنما هو نابع من أصواته وحروفه، أما أي نص آخر عندما تقرأه مرة ومرة ومرة ويُعاد عليك وإن تنوعت طرق أدائه وطرق قراءته- إلا أنك تشعر منه بالملل والسأم، وتشعر بعدم الرغبة في مواصلة السماع، عدا القرآن الكريم يختلف عن هذا وعن أي نص في هذه الصفة؛ أنك لا تسأم من ترداده وكثرة تكراره.
هذا الذي ذكرته لك -أيها الابن الحبيب- هو في مجمله الكلام عن الحروف وأصواتها وتأثيرها كوجه من وجوه الإعجاز، فإذا ما أردنا أن نفصل في هذه المسألة وأن نذكر فيها أدلة ذكرها البلاغيون ومن تعمقوا في هذه المسألة وحاولوا أن يتلمسوا من كتاب الله -عز وجل- أثرَ الإعجاز في بنيته الخارجية أو في شكله أو في الإطار الذي وضع فيه- هذا ما نجده في نقاط سنذكرها تبعًا بإذن الله -عز وجل- وهي التلاؤم وصلته بمخارج الحروف وشكل الحرف وأثر الحرف المعنوي على النفس والحروف المتماثلة وحركات الحروف والنسق الصوتي.
نبدأ بأولى هذه النقاط وهي الصلة بين التلاؤم والمخارج:
نطرح هذا السؤال: هل هناك صلة بين تلاؤم الحروف وبين مخارجها؟
هذا السؤال شغل من اهتم بهذه المسألة، فنرى أولًا الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) يعرض كلام الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي عدّ التناسق بين الحروف