ذلك أيضًا الفرق بين القعود والجلوس؛ فالقعود لا يكون معه لبثة أي: مُكث، وقت، أما الجلوس لا يعتبر فيه ذلك، ولذلك نقول: قواعد البيت ولا نقول: جوالس البيت؛ لأن المقصود ما فيه ثبات، ولهذا قالوا: قعد يقعد بالضم، وجلس يجلس بالكسر، فاختاروا الثقيل؛ لما هو أثبت، ومن ثم نجد الاستخدام القرآني يبين هذا الفرق، فيقول المولى -سبحانه وتعالى-: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} (المجادلة: 11) فجاءت المجالس ولم تأتِ المقاعد؛ لأن الجلوس يكون زمانًا يسيرًا، أما مع القعود يكون الوقت والمكث الطويل، فلذلك لا يقال في الكلام: قعيد الملوك، وإنما يقال: جليس الملوك؛ لأن مجالسة الملوك تكون خفيفة، أو لا يكون فيها طول ولُبث، بعكس قولنا: القعيدة، بالنسبة للمرأة؛ لأنها تلبث في مكانها.
كذلك أيضًا من جمائل هذه التفرقة، الفرقة بين التمام والكمال، وقد اجتمع ذلك في قوله -سبحانه وتعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) فذكر المولى -سبحانه وتعالى-: {أَكْمَلْتُ} وذكر: {أَتْمَمْتُ} فالعطف كما هو معلوم يقتضي المغايرة، فقيل: الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، ولهذا كانت هذه اللطيفة في قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196) ولو نظرتَ هذه الآية تجد قوله -سبحانه وتعالى-: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196) فربما يتوهم متوهم لماذا ذكر كاملة مع أنها معروفة من العدد ثلاثة وسبعة فهم عشرة؟ يقال له: إن المولى -سبحانه وتعالى- لم يقل: تلك عشرة تامة؛ لأن كلمة تامة فُهمت من العدد كما ذكرت ثلاثة وسبعة، فهم عشرة، أو فهي عشرة، فإن التمام في العدد قد علم، وإنما قد بقي الإشارة إلى كمالها وعدم نقصها، فبذلك استخدمت: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.