الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فِعْلٌ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ، وَقَدْ عُلِّقَ ذَلِكَ بِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ عَدَمِ طُمَأْنِينَتِهَا. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٌ، فَهُوَ ذَلِكَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ، بَاقٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِهِ.
فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرَيْنِ: نَظَرٍ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ، وَنَظَرٍ فِي مَنَاطِهِ، فَأَمَّا النَّظَرُ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمَا مِنْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَلَا نَفْيُ رَيْبِ الْقَلْبِ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا أَوْ غَيْرَ دَلِيلٍ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ (غَيْرَ ذَلِكَ) إِلَّا أَهْلَ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَسْتَحْسِنُونَ الْأَمْرَ بِأَشْيَاءَ لَا دَلِيلَ (عَلَيْهَا)، أَوْ يَسْتَقْبِحُونَ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ إِلَّا طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا زَعَمُوا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. أ
وَأَمَّا النَّظَرُ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْمَنَاطَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَقَطْ، بَلْ يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بُلُوغَ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ فَضْلًا: عَنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا سَأَلَ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ إِذَا فَعَلَهُ الْمُصَلِّي: هَلْ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْعَامِّيُّ: إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَمُغْتَفَرٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَمُبْطِلٌ، لَمْ يُغْتَفَرْ فِي السَيْرِ إِلَى أَنْ يُحَقِّقَهُ لَهُ الْعَالِمُ. بَلِ الْعَاقِلُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفِعْلِ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ. فَقَدِ انْبَنَى هَاهُنَا الْحُكْمُ ـ وَهُوَ الْبُطْلَانُ أَوْ عَدَمُهُ ـ عَلَى مَا يَقَعُ بِنَفْسٍ
الْعَامِّيُّ، وَلَيْسَ وَاحِدًا