وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] ; مَعْنَاهُ: كَيْفَ أَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يُغْنِي شَيْئًا، وَأَتْرُكُ إِفْرَادَ الرَّبِّ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ؟ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقٍ إِلَى غَيْرِ طَرِيقٍ; {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 24].
وَالْأَمْثِلَةُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ، جَمِيعُهَا يَشْهَدُ بِأَنَّ الضَّلَالَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعٍ يَزِلُّ صَاحِبُهُ لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ لَهُ، أَوْ تَقْلِيدِ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ الشُّبْهَةُ، فَيَتَّخِذُ ذَلِكَ الزَّلَلَ شَرْعًا وَدِينًا يَدِينُ بِهِ، مَعَ وُجُودِ وَاضِحَةِ الطَّرِيقِ الْحَقِّ وَمَحْضِ الصَّوَابِ.
وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْكُفْرُ فِي الْوَاقِعِ مُقْتَصِرًا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، بَلْ ثَمَّ طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْعِرْفَانِ عِنَادًا أَوْ ظُلْمًا، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّنْفَيْنِ فِي السُّورَةِ الْجَامِعَةِ، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ:
فَقَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7]، فَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الْعُظْمَى الَّتِي دَعَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7].
فَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ; لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ