وأَما ثَانِيًا: فإِن إِثبات قَسْمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْبِدَعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُنْظَرُ (?) فِيهِ، فَلَا يَغْتَرّ (?) المُغْتَرّ بإِطلاق الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الفقهاءِ لَفْظُ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ (?)، وإِنما حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَن الْبِدَعَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الذَّمِّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ـ، وأَما تَعْيِينُ الْكَرَاهَةِ (?) الَّتِي مَعْنَاهَا نَفْيُ إِثم فَاعِلِهَا، وَارْتِفَاعُ الْحَرَجِ عنه (?) البتَّةَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الأَئمة عَلَى الْخُصُوصِ.
أَما الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لأَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: أَما أَنا فأَقوم اللَّيْلَ وَلَا أَنام، وَقَالَ الْآخَرُ (?): أَما أَنا فَلَا أَنكح النساءَ ... ، إِلى آخِرِ مَا قَالُوا، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سنتي فليس مني" (?).
وهذه العبارة من (?) أَشد شيءٍ فِي الإِنكار، وَلَمْ يَكُنْ مَا الْتَزَمُوا إِلا فِعْلَ مَنْدُوبٍ أَو تَرْكَ مَنْدُوبٍ إِلى فِعْلِ مَنْدُوبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الحديث: أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟ " فَقَالُوا (?): نذر أَن لا يستظل ولا يتكلم ولا يَجْلِسُ وَيَصُومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: "مُرْهُ (?) فليجلس وليتكلم وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ" (?). قَالَ مَالِكٌ (?): "أَمره أَن يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَيَتْرُكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ".
وَيُعَضِّدُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ: مَا فِي الْبُخَارِيِّ (?) عن قيس بن أَبي