وذلك لأنه لو لم يرد شرع في إباحة بيع العَرَايَا بخَرْصِها تمرًا لما جاز, لأنه من بيع الرُّطب بالتمر، وهذا الذي ذهب إليه هو الدليل، وإنما سماه استحسانًا على معنى الْموَاضِعَة، ولا يمتنع ذلك في عرف أهل كل صناعة.
والاستحسان الذي يختلف أهل الأصول في إثباته هو اختيار القول من غير دليل ولا تعليل.
وذهب بعض البصريين من أصحاب أَبِي حَنِيفَةَ، وأصحاب مَالِكٍ إِلى إِثباتِهِ ومنع منه شيوخنا العراقيون، والشافِعِيّ، والدليل على ما نقوله إن هذه معارضة للقياس بغير دليل، فوجب أن يبطل أصل ذلك، إِذا عُورِضَ بمجرد الهَوَى.
مذهب مَالِك -رحمه اللَّه- المنع من سدّ الذَّرَائع، وهي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصَّل بها إِلى فِعْل المحظور، وذلك نحو أن يبيع السلعة بمائة إِلى أَجل، ثم يشتريها بخمسين نقدًا، ليتوصل بذلك إِلى بَيْع خمسين مثقالًا نقدًا بمائة إِلى أَجل.
وأباح الذَّرائع أبُو حَنِيفَةَ والشافعي:
والدليل على ما نقوله قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} إلى قوله: {يَفْسُقُونَ} [الأعراف: الآية 163].
فوجه الدليل من هذا أنه حرم عليهم الاصطياد يوم السَّبت وأباحه سَائِر الأيام فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت وتغيبت عنهم في سائر الأيام، فكانوا يحظرون عليها إذا جاء يوم السبت ويسدّون عليها المسالك، ويقولون: إِنما منعنا من الاصطياد يوم السَّبت فقط، وإنما نفعل الاصطياد في سائر الأيام، وهذه صورة الذَّرَائع، ويدلس على ذلك أَيضًا ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَر (?) ثم قال: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ"، لما رأى من شبهه بعتبه.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: الآية 104].
فوجه الدليل من هذا أنه منع المؤمنين أن يقولوا: راعنا، لمَّا كان اليهود يتوصلون بذلك لسَبِّه عليه السلام فمنع من ذلك المؤمنين.