فإن قيل: فإن اتفق لأهل مكّة مثل خبر أهل المدينة في إجماعهم؛ لأنهم قد شاهدوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما شاهد أهل المدينة، فهذا اتَّفَقُوا على شيء من توقيف، أو ما الغالب منه أن يكون عن توقيف، فهل يجب أن يقبل ذلك منهم؟
قيل: إن اتفق لهم ذلك كانوا هم وأهل "المدينة"، سواء فيما نقلوه عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
ولكن لا يكاد أن يتفق هذا لغير أَهْل المدينة في أن يكون خبرهم كواسطة لا يتخلله أخبار الآحاد؛ لأن أخبر غيرهم، وإن نقلها جماعة يتخللها أخبار الآحاد في طريقها، أو في وسطها، فخرجت بذلك عن أن تكون تواترًا، وأهل المدينة يحصل لهم في فعلهم صفة التواتر، فبهذا كان خبرهم مقدمًا على خبر غيرهم. واللَّه أعلم.
ومن مذهب مالك -رحمه اللَّه- أن دليل الخطاب معمول به، وقد احتجّ بذلك في مواضع منها حيث قال: من نحو هديه بالليل لم يجزه، لقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: الآية 28].
دليله: أنه لا يجزيه إذا نحر بالليل وكقوله: من دخل الدار فَأعْطه دِرْهمَا.
دليله: من لم يدخل الدار، فلا تعطه شيئًا، وهذا نص منه في القول بدليل الخطاب.
والوجه فيه أن ينظر عند ورود الخطاب بالشَّرط أو الصِّفَة إلى سياق الكلام وما تقدمه، وما يخرج عليه الخطاب، فإن وجد دليل يدلس على الجَمْع بين المسكوت عنه، وبين المذكور صير إليه، وإن لم يوجد دليل مضى الحكم على ذكره، ثم نظر في حكم المسكوت عنه للمذكور، كمن أقرَّ لرجل بألف درهم فقيل له: إن كان له عليك ألف درهم، فأخرج له منها، وكالعاصي إذا سئل عن رجل قتل ابنه، فيقول العالم: من قتل ابنه فلا قَوَد عليه، فلا يكون ذلك شرطًا في الأب وحده؛ لأنه لا ينبغي القَوَدُ في غيره، وهذا كما نقول: إنَّ سائلًا سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المَسْح على الخُفَّين هل يمسح المسافر ثلاثة أيام؟ فقال عليه السلام: "يَمْسَحُ المُسَافِرُ ثَلاثَةَ أَيَّامِ" (?).