قال مالك: جمع اللَّه -سبحانه وتعالى- المساجد كلها, ولم يخص مسجدًا عن مسجد، وحكم هذا الباب عنده أن الخطاب إذا ورد باللفظ العام نظر، فإن وجد دليل يخصّ اللفظ كان مقصورًا عليه، وإن لم يوجد دليل يخصه أجرى الكلام على عمومه، ووجه ذلك أن فِطْرَة اللسان في العلم الذي وصفته، واحتمال الخصوص إذا لم يكن محتملًا لذلك كان سنة، فوجب أن يجري حكمه على جميع ما استعمل عليه، ولو كانت عينه توجب ذلك، لم يجز أن يوجد في الخطاب لفظ علم أريد به الخصوص، ولا جاز أن يقوم دليل على خصوص لفظ علم، وفي وجود ذا الأمر بخلاف ذلك دليل على أنَّ غير اللفظ لا يوجب العموم، وَإِذَا كان ذلك كذلك علم احتماله، ومتى علم أنه محتمل لم يجز الإقدام على الحُكْم به دون البَحْث والنَّظَر في المراد به، والمعنى الذِي يخرج عليه؛ لأن اللَّه -عزَّ وَجَلَّ- أمرنا باتِّبَاع كتابه وسنة نبيه والاعتبار بهما، والرد إليهما فذلك كله كالآية الواحدة.
فلا يجوز ترك شيء من ذلك مع القدرة عليه، وإذا لم يجز ذلك وجب أن ينظر ولا يهجم بالتنفيذ، قبل التأمل كما لا يبادر بذلك في الكلام المتصل إلى أن ينتهي إلى آخره، فينظر آخرُهُ، هل يتبعه استثناء أم لا؟ وكذلك الكتاب والسنة والأصول كلها كالآية الواحدة، ولا يجوز أن يبادر إلى التنفيذ حتى يتدبر وينظر، فإن وجد دليل يخصّ حَمَلْنا الخطاب عليه، وإن لم يجد فقد حصل الأمر، والمراد به التنفيذ، وإنما جعلت الأسماء دليلًا على المسمَّياتِ، وقد ورد اللفظ مشتملًا على مسمَّيَّات، فليس بعضها أولى من بعض، وقدم عليه فهو على عمومه، والحكم جاء على جميع ما انطوى عليه؛ لأن قضية العقول أن كل مُتَساويين، فحكمهما واحد من حيث تساويا إلا بأن يخص أحدهما معنى يوجب إجراءة عن صاحبه، وإذا عده دليل الأفراد فلا حكم إلا التسوية؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر وإذا كان هكذا صحّ ما قلنا في العموم والخصوص، وباللَّهِ التوفيق.
عند مالك -رحمه اللَّه- أن الأوامر على الوجوب إذا وردت من مفروض بالطاعة، وقد احتجّ حيث سئل عن تَمَام ما يدخل فيه القرب بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: الآية 196] وبقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: الآية 187].