وَالْأَنْصَارِ مَنْ يَحْفَظُ لَنَا مِنْهُ شَيْئًا؟ فَوَثَبَ أَبُو بَكْرٍ قَائِمًا، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحْفَظُهُ، وَكُنْتُ حَاضِرًا ذَلِكَ الْيَوْمَ بِسُوقِ عُكَاظٍ حِينَ خَطَبَ فَأَطْنَبَ، وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ، وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَعُوا، فَإِذَا وَعَيْتُمْ فَانْتَفِعُوا إِنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتْ، وَمَنْ مَاتَ فَاتْ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتْ، مَطَرٌ وَنَبَاتْ، وَأَرْزَاقٌ وَأَقْوَاتْ، وَآبَاءٌ وَأُمَّهَاتْ، وَأَحْيَاءٌ وَأَمْوَاتْ، جَمِيعٌ وَأَشْتَاتْ، وَآيَاتٌ بَعْدَ آيَاتْ. إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ لَعِبَرًا، لَيْلٌ دَاجْ، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجْ وَأَرْضٌ ذَاتُ رِتَاجْ وَبِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجْ. مَالِيَ أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلَا يَرْجِعُونَ؟ أَرَضُوا بِالْمُقَامِ فَأَقَامُوا؟ أَمْ تُرِكُوا هُنَاكَ فَنَامُوا؟ أَقْسَمَ قُسٌّ قَسَمًا حَقًّا لَا حَانِثًا فِيهِ وَلَا آثِمًا إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دِينًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، ونَبِيًّا قَدْ حَانَ حِينُهُ، وَأَظَلَّكُمْ أَوَانُهُ، وَأَدْرَكَكُمْ إِبَّانُهُ، فَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِهِ فَهَدَاهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ وَعَصَاهُ , ثُمَّ قَالَ: تَبًّا لِأَرْبَابِ الْغَفْلَةِ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. يَا مَعْشَرَ إِيَادٍ، أَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ؟ وَأَيْنَ الْمَرِيضُ وَالْعُوَّادُ؟ وَأَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ؟ أَيْنَ مَنْ بَنَى وَشَيَّدَ؟ وَزَخْرَفَ وَنَجَّدَ؟ وَغَرَّهُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ؟ أَيْنَ مَنْ بَغَى وَطَغَى، وَجَمَعَ فَأَوْعَى، وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى أَلَمْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ أَمْوَالًا، وَأَبْعَدَ مِنْكُمْ آمَالًا، وَأَطْوَلَ مِنْكُمْ آجَالًا؟ طَحَنَهُمُ الثَّرَى بِكَلْكَلِهِ، وَمَزَّقَهُمْ بِتَطَاوُلِهِ، فَتِلْكَ عِظَامُهُمْ بَالِيَةٌ، وَبُيُوتُهُمْ خَالِيَةٌ، عَمَرَتْهَا الذِّئَابُ الْعَاوِيَةُ، كَلَّا، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْمَعْبُودُ، لَيْسَ بِوَالدٍ وَلَا مَوْلُودٍ , ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

فِي الذَّاهِبينَ الْأُوَّلِينَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ

لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ

وَرَأَيْتُ قَوْمِيَ نَحْوَهَا يَمْضِي الْأَصَاغِرُ وَالْأَكَابِرْ

لَا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ وَلَا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ

أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ

قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بَعْدَهُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ جَبَلٍ، ذُو هَامَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَامَةٍ جَسِيمَةٍ، قَدْ دَوَّمَ عَمَامَتَهُ، وَأَرْخَى ذُؤَابَتَهُ، مُنِيفٌ أَنُوفٌ أَحْدَقُ أَجَشُّ الصَّوْتِ، فَقَالَ: يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ، وَصَفْوَةَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ قُسٍّ عَجَبًا، وَشَهِدْتُ مِنْهُ مَرْغَبًا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015