يَتَحَرَّقُونَ شَوْقاً إلَى القِتَالِ، وَيَتَمَنَّوْنَ لَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالقِتَالِ، لِيَنْتَصِفُوا مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَيَشْفُوا غَلِيلَهُمْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنِ الحَالُ إذْ ذَاكَ مُنَاسِباً لِلْقِتَالِ لأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَمْنَهَا كَوْنُهُمْ فِي بَلَدٍ حَرَامٍ، لِذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالجِهَادِ إلاَّ بَعْدَ أنْ خَرَجُوا إلى المَدِينَةِ، وَصَارَ لَهُمْ فِيها دَارُ مَنَعَةٍ وَأَنْصَارٌ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِمَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ (وَهُوَ القِتَالُ) جَزِعَ بَعْضُهُمْ جَزَعاً شَدِيداً، وَخَافُوا مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ فِي مَيْدَانِ الحَرْبِ، وَقَالُوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ الآنَ؟ لَوْلاَ أخَّرْتَ فَرْضَهُ إلى وَقْتٍ آخَرَ (أو لَوْ تَأخَّرْتَ فِي فَرْضِهِ عَلَيْنَا حَتَّى نَمُوتَ مَوْتاً طَبِيعِياً حَتْفَ أُنُوفِنَا)، فَإِنَّ فِيهِ سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَيُتْمَ الأَوْلاَدِ، وَتَأييمَ النِّسَاءِ. . فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: مَتَاعُ الدُّنْيَا مَهْمَا عَظُمَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الحَيَاةِ الأُخْرَى، وَحَيَاةُ النَّاسَ فِي الدُّنْيا قَصِيرَةٌ، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِينَ، لأَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِي الجَنَّاتِ، يَنْعَمُونَ بِرِضْوَانِ رَبِّهِمْ. وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّهُمْ سَيُوَفَّوَْن أَعْمَالَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً وَلَوْ قَلَّ، وَلَوْ كَانَ فَتِيلاً.
يَخْبِرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إلى المَوْتِ لاَ مَحَالَةَ، وَلاَ يَنْجُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُقِيمِينَ فِي حُصُونٍ مَبْنِيَّةٍ، قَوِيَّةِ البُنْيَانِ وَالتَّحْصِينِ وَلِلنَّاسِ أَجَلٌ مَحْتُومٌ، وَوَقْتٌ مَعْلُومٌ، لاَ يَتَقَدَّمُونَ عَنْهُ وَلاَ يَتَأَخَّرُونَ، سَواءٌ أَجَاهَدُوا وَتَعَرَّضُوا لِمَخَاطِرَ الحُرُوبِ، أَوْ قَعَدُوا فِي بُيُوتِهِمْ، فَلاَ يُقَدِّمُ الجِهَادَ أَجَلاً. وَلاَ يُؤَخِّرُ القُعُودُ أَجَلاً فَلِمَاذَا يَكْرَهُونَ القِتَالَ، وَيَجْبُنُونَ وَيَتَمَّنْونَ البَقَاءَ، أَلَيْسَ هَذَا بِضَعْفٍ فِي العَقْلِ وَالدِّينِ؟
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى شَأناً آخَرَ مِنْ شُؤُونِهِمْ فِيهِ دَلاَلَةٌ عَلى الحَمَقِ وَضَعْفِ الإِدْرَاكِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا أَصَابَتْهُمْ سَنَةُ خَيرٍ وَخِصْبٍ وَرِزْقٍ كَثِيرٍ، وَكَثْرَةِ أَمْوالٍ وَأَوْلاَدٍ. . قَالُوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَهُوَ الذِي أَكْرَمَهُمْ بِها، لأنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَإذَا أَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَدْبٌ وَنَقْصٌ فِي الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ أَو مَوْتِ أَوْلادٍ قَالُوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، وَبِسَبَبِ اتِّبَاعِنَا لَكَ، وَإيمَانِنَا بِمَا أتَيْتَنَا بِهِ، وَتَرْكِنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا. فَقُلْ لَهُمْ: كُلُّ مَا يُصِيبُ النَّاسَ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍ، هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَبِتَقْدِيرِهِ، اخْتِبَاراً وَابْتِلاءً، فَمَا لِهَؤُلاءِ القَائِلِينَ وَكَأَنَّهُمْ لاَ يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُونَ، وَلاَ مَا يُقَالُ لَهُمْ؟ (?)