(4)
وقد اشتغل المحدثون للتثبت من المرويات على محورين: محور السند، ومحور المتن.
فعلى محور السند: درسوا وضع الرواة: عدالتهم وصدقهم وضبطهم، واجتماعهم ببعضهم، وإمكانية أخذ بعضهم عن بعض، إلى غير ذلك.
وعلى محور المتن: قارنوا بين المتون المروية فإذا خالف الثقة من هو أوثق منه أو إذا خالف الثقة الثقات لم يقبلوا المتن إلا إذا أمكن الجمع بين الحديثين.
وهكذا من خلال سير السند ومقارنة المتون أحكموا أمر التثبت، ومع ذلك فإنهم لم يكتفوا بذلك بل أوجبوا على أنفسهم أن ينظروا نظرة شمولية إلى السند والمتن بعي الخبير بشأنها البصير بهما، لعلهم يكتشفون قادحاً خفياً، ومن ثم أوجدوا ما يسمى بعلم العلل، ولم يعتبروا الحديث صحيحاً إلا إذا سلم من الشذوذ والعلة.
وهذا كله كان جهد المحدثين، وأكمل عملهم الأئمة المجتهدون، فإذا كان المحدثون مهمتهم النظر في السند والمتن ومقارنة متون السنة النبوية ببعضها البعض لمعرفة الشذوذ في الرواية، فمهمة المجتهدين أن يستشرفوا نصوص الكتاب والسنة، وأن يلحظوا ما إذا كانت رواية من الروايات تخالف معنى قرآنياً أو قاعدة تشريعية، وهكذا أكمل المجتهد عمل المحدث، ولذلك ترى بعض النصوص صححها المحدثون ولم يأخذ بها الأئمة المجتهدون إما لاعتبارها مخالفة لنص قرآني أو لقاعدة شرعية محكمة أو لاعتبارهم إياها سنة يومية فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم قيادته السياسية للدولة الإسلامية، وإذ كانت هذه القضية من أخطر القضايا لما يترتب عليها من تعطيل السنن فإنها محرمة إلا على أهل الاجتهاد، ولذلك اعتبروا من يتصدر للاجتهاد وليس أهلاً له ضالاً مضلاً؛ لما يترتب على اجتهاده من تعطيل لبعض النصوص أو مس لهيكل الشريعة.
وهكذا تضافرت جهود لا مثيل لها حتى بقيت نصوص الإسلام سليمة من الخلط أو التحريف أو التبديل أو الزيادة أو النقص، لتبقى زاد الأمم ومصدر هدايتها إلى قيام الساعة.
* * *