(لما أرادت الأمم الأخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها ورواياتهم، كان قد فات عليهم زمن طويل، وانقضى بينها وبينهم عهد بعيد، فحاولوا كتابة شئون أمة قد خلت، ولم يميزوا بين غثِّ ذلك الماضي وسمينه، وصحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار ولا أسماءهم ولا تواريخ ولادتهم فاكتفوا بأن اصطفوا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يوافق هواهم ويلائم بيئتهم وينطبق على مقاييسهم، ثم لمي مض غير زمن يسير حتى صارت تلك الخرافات معدودة كالحقائق التاريخية المدوَّنة في الكتب، وعلى هذا المنهاج السقيم صنفت أكثر الكتب الأوروبية مما يتعلق بالأمم الخوالي وشئونها، والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السالفة ومذاهبها ورجالها.
أما المسلمون فقد جعلوا لرواية الأخبار والسير قواعد محكمة يرجعون إليها وأصولاً متقنة يتمسكون بها وأعلاها أن لا تُروى واقعة من الوقائع إلا عن الذي يشهدها، وكلما بعد العهد على هذه الواقعة فمن الواجب تسمية من نقل ذلك الخبر عن الذي نقله عمَّن شهد، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة والتحدث عنها إلى زمن وقوعها. والتثبت من أمانة هؤلاء الرواة وفقههم وعدالتهم وحسن تحملهم للخبر الذي يروونه، وإذا كانوا على خلاف ذلك وجب تيينه أيضاً.
وهذه المهمة من أشق الأمور، ومع ذلك فإن مئات من المحدثين تفرغوا لها، ووقفوا أعمارهم على تحري ذلك واستقصائه وتدوينه، وطافوا لأجله البلاد، ورحلوا بين الأقطار، باحثين دارسين لأحوال الرواة، وكانوا يلقون المعاصرين لهم من الرواة لينقدوا أحوالهم، وإذا اطمأنوا إلى سيرة فرق منهم سألوهم عما يعرفونه من أحوال الطبقة التي كانت قبلهم، وقد اجتمع من هذا المجهود العلمي العظيم علم مستقل من العلوم الإسلامية أطلق عليه فيما بعد عنوان (أسماء الرجال) فتيسر لمن أتى بعدهم أن يقفوا على أقدار مئات الألوف من الحفاظ والعلماء والرواة وغيرهم).
هذا فيما يتعلق بالرواية وحملتها، وهنالك (عالم نقد الحديث) من جهة الدراية والفهم، وأن له أصولاً محكمة وقواعد متقنة اتخذوها لنقد المرويات وتمييز صحيحها من سقيمها وغثها من السمين والراجح من المرجوح، وقد تحرى علماء السنة في هذا الأمر الحق وحده، وتمسكوا