يبدأ على ضعف واحتباس صوت، فما يزال يعلو ويسترسل، ويرتفع ويجلجل حتى لتراه في أشد ما يكون قوة وفتاء، فكأنما لم يصبه من الداء قليل، ولا أقل من القليل.
عاد من رحلة إلى الصعيد مكدود الجسم مجهود القوى، ورأى الأطباء أن يجافي الضجة، ويؤثر الصمت والراحة، فلما حان الاحتفال بذكرى عيد الجهاد القومي ألح في أن يحضر الاحتفال فتوقف الأطباء، ثم أدنوا على غضاضة على أن يكف عن القول مهما أوجز، وعهد إلى بعض زملائه أن يروي في الحفل جانبا من حديث الرحلة وعمل الحكومة، فقام أحد محامي أسيوط ليشرح ما طلب له، ولكنه استغضب بلاغة سعد واستنفر بيانه، وحرك فيه الخواطر فاندفع إلى المنبر بين شوق والحفل وإشفاقه، وارتجل خطابا ملهما ضاقت عنه ساعات ثلاث حتى كأنه استعاد شبابه واسترد صباه، ولم يكن به أثر من علة.
وكان سعد بليغ الارتجال تفد إليه الوفود، وتفجأه المواقف فيصول ما شاء مرتجلا وهو الفصيح البيان، والمنطق اللسان، الخصب الذهن، القوي المنطق، ولم يعرف عنه يوما ما أن غلبه موقف أو ارتج عليه في جمع، أو خانه بيانه، وخذله لسانه.
وكان يطرب إلى الخطابة خطيبا كان أو مستمعًا، وأول ما كان يتطلع في زائريه أن يستمع إلى خطيب منهم ذي فصاحة وبيان حتى ليسأل الوفد الزائر عن خطيبه حين مقدمه، فإذا لم يلق في الوفد خطيبا هز منكبيه، ولم يظفروا بترحيبه.
ذكر الأستاذ "البشري" أنه كان بحضرته، وقد مثل أمامه وفد من الوفود، فمد بصره إليهم وقال: من خطيبكم؟ فلما لم يصب فيهم خطيبا كاد يعرض عنهم لولا حاجته إلا مناصرتهم، لذلك تقربت إليه الوفود بالخطباء، وشاع في نفوس النشء حب الخطابة تشبها بسعد، فكثرت الخطباء، وفي كثرتهم