كعبة حجها الشباب الحافل بالأمل والتوثب الطامح إلى الحرية والمجد، والتف حوله من تلاميذ الأزهر النابهين طائفة كان لها أعظم الأثر في نهضة مصر الوطنية والثقافية من أمثال "الشيخ محمد عبده" وسعد زغلول، فبعث فيهم "جمال الدين" روح الحياة الكريمة، وتجاوب مع أرواحهم الطامحة شعوره وتوجيهه، وأذكى في نفوسهم حب الوطن والذود عنه ونقد لهم أساليب التعليم وعكوف المتعلمين على الألفاظ، ثم أخذهم بأسباب الارتجال ومرسهم بالنقاش والجدال، والوقوف بجانب الحق تنافح عنه الحجة ويحمي حماه الدليل، فتفتحت أذهانهم ولانت بروائع القول ألسنتهم وشغفوا بجمال الدين حبا، وأشربوا رسالته، فبثوا أفكاره وتحدثوا عن الأخلاق والاجتماع، وتجاوزوا ذلك إلى الحديث في السياسة وشئونها، فألفوا جمعية سرية "بحلوان" لهذا الغرض، ولكن حكومة إسماعيل تفتحت عيونها على خطر هؤلاء، فكبحت جماحهم وقبضت عن "جمال الدين" يدها التي كانت تمتد إليه بعشرة جنيهات كل شهر تقديرا لفضله، ولم تطق بقاءه بمصر فنفته إلى مكان سحيق ولم تكن هذه الشعلة التي أوقدها الأفغاني ليخبو نورها بنفيه من مصر، فقد ظل فريق من تلامذته وعشاقه ينشرون دعوتهم ويؤيدون بالخطابة والاجتماع فكرتهم، وألفوا لهذه الأغراض الجليلة جمعيات غذوها ببيانهم وأنهضوها بأفكاهم.
وإذا كان "إسماعيل" على رغم حبه الحرية مخوف الجانب مرهوب البأس، فإن "توفيقا" عرف بالتسامح ولين العريكة، وذلك مما هيأ لهذه الحركات الفكرية تربة خصبة نمت فيها وترعرعت وأتت أكلها، ولم تزل جمرات الفكر تتأجج في عهده حتى اشتعلت الثورة العرابية، فهزت القرائح وأجرت البيان، ولكن كانت هذه الثورة وبالا على مصر وحربا على أهلها، فقد أثمرت غير ما رجى منها فبسط الاحتلال على الوادي ظلاله وفرض على الأمة سلطانه، وخنق الحريات الناشئة وحول التعليم إلى أداة حكومية لا تمت إلى الثقافة المرجوة بسبب.