الأمر فإنا نجد أنه لما وافت ألف سبعمائة وخمسين قبل الميلاد كانت الصين مكونة فعلًا من مجموعة هائلة من الممالك الصغيرة ودول المدن، وكلها تعترف بولاء المفكك العُرى وتدفع رسومًا إقطاعية لإمبراطور كاهن واحد هو ابن السماء الكاهن الأعظم، وانتهى حكم أسرة "شانج" في سنة 1025 قبل الميلاد، وخلفتها أسرة "تشاو" الطويل، وانحدرت إلى البلاد شعوب من "الهون" وأنشأت الإمارات، وقطَع الحكام المحليون الجزيةَ، وأصبحوا مستقلين.
ويقول أحد الثقات الصينيين: إن البلاد كان بها في القرن السادس قبل الميلاد خمسة أو ستة آلاف مقاطعة مستقلة تقريبًا، وهذا العصر هو الذي يسميه الصينيون في سجلاتهم باسم عصر الفوضى، ويهمنا جدًّا أن ندرك أن عصر الفوضى هذا كان مليئًا بكثير من النشاط الفكري، وبوجود كثير من مجالات الفن المحلية، والعيش المرفه والمتحضر، ومع ذلك لا نجد للدين صورة راقية تدل على التوافق بين الرقي الفكري والرقي الديني، أو بين التحضر وتطور المعتقدات الدينية. فكل ما استطاع أن يصل إليه الإنسان الصيني في هذا العصر أن وجد "كنفشيوس" الذي بشر بالحلم والصبر، والبر بالوالدين، والعطف على الأقربين والغرباء، وأوصى أن تقابل السيئة بالعدل، أو وأن يقابل الإحسان بالإحسان، وقد أحزنه كثيرًا ما يغشَى الصين من فوضى وخروج على القانون، فاختط لنفسه صورة مثل أعلى لحكومة أحسن وحياة أفضل، وأخذ يتنقل من ولاية إلى أخرى؛ باحثًا عن أمير يؤخذ بنظرياته في التشريع والتعليم وينفذها، ولكنه لم يعثر قط على ذلك الأمير، وحين عثُر عليه أحاطت به مؤامرات رجال البلاط، فقوضت سلطان "كنفشيوس" عن الأمير، وتغلبت في النهاية على مشروعاته الإصلاحية.