جاءوهم من وراء البحار في أوائل القرن الثامن، فاتحين فتوح علم وسلم، وعدالة وسماحة، لا فتوح علو وعتو، وإشباع للغرائز الجامحة، واستنزاف للدماء والثروات.

هناك هرع الناس إليهم من كل صوب ينهلون من معارفهم، وكان اليهود أول الناس انتفاعًا بهذه التلمذة، فأخذوا ينقلون هذه العلوم من العربية إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية؛ إنما أفاده الغربيون من معارف العرب أنفسهم في الأدب والشعر، والتشريع والطب، والفلك، والتاريخ، والطبيعة والكيمياء، والجبر والتقويم، والترقيم، ومختلف الفنون والصناعات، فهو أوسع من أن نلمَّ ببعضه، ولكن الذي يعنينا هنا إنما هو أثر العرب والمسلمين في علم الأديان الذي نحن بصدده، وإنه لأثر جليل يمتاز بطابعين جديدين لم يسبق إليهم أحد فيما نعلم.

أما أحدهما: فهو أن الحديث عن الأديان بعد أن كان في العصور السابقة إما مغمورًا في لُجَّة الأحاديث عن شئون الحياة، وإما مدفوعًا في تيار البحوث النفسية أو الفلسفية أو الجدلية، أو على الأقل محدودًا بحدود العقائد الموضوعية وما يشارفها، أصبح في كتب العرب دراسة وصفية واقعية، ومنعزلة عن سائر العلوم والفنون، شاملة لكافة الأديان المعروفة في عهدهم، فكان لهم بذلك فضل السبق في تدوينه علمًا مستقلًّا قبل أن تعرفه أوربا الحديثة بعشرة قرون.

وأما الآخر فهو ليس أقل نفاسة من سابقه، فهو أنهم في وصفهم الأديان المختلفة لم يعتمدوا على الأخيلة والظنون، ولا على الأخبار المحتملة للصدق والكذب، ولا على العوائد والخزعبلات الشائعة في الطبقات الجاهلة، والتي قد تنحرف قليلًا أو كثيرًا عن حقيقة أديانها، ولكنهم كانوا يستمدون أوصافهم لكل ديانة من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015