لقد تركت "مدام دستيل" مثلًا بلدها فرنسا إلى ألمانيا أيام نابليون واستبداده، فجاءت كتاباتها عن ألمانيا عاكسة لمشاعرها الخاصة، إذ وجدت فيها جوًّا تتنفس فيه بحرية، فصورته بصورة مثالية وجعلتها جنة الباحثين عن تلك الحرية، وكان لتلك الصورة أثر قوي على قرائها الفرنسيين رغم ما فيها من افتقار إلى الدقة، ورغم ما يوشيها من مبالغة غير قليلة، وبخاصة أن الكاتبة لم تكن تختلط في ألمانيا إلا برجال الأدب ورجال السياسة هنا وهناك، وهؤلاء لا يمثلون الشعب الألماني كله في جميع حالاته، مثلما أن الأماكن التي اختلطت بهم فيها لا تمثل ألمانيا كلها، بل قطاعًا صغيرًا منها فحسب.

ويدرس الأدب المقارن صورة هذا البلد أو ذا في كتابة ذلك الأديب أو هذا، ثم يمضي فيتتبع تأثير تلك الصورة على كتابات الكتاب الآخرين في بلاده بغض النظر عن لون هذه الكتابات قصة كانت، أو رحلة أو شعرًا أو مسرحية مثلًا، وسواء زار أولئك الكتاب المتأثرون ذلك البلد، أو اكتفوا باستقاء صورته مما قرأه الأديب الذي تأثر به، ومن الطبيعي أن تجيء صورة البلد الذي كتب عنه أدباء من بلاد أخرى على غير الحقيقة، أو فلنقل: إن تلك الصورة لا بد أن تختلف من أديب إلى آخر تبعًا لاختلاف ظروف كل منهم عن ظروف الآخرين، إذ الحقيقة الكاملة المطلقة لأي شيء إنما يعلمها الله والله وحده، أما نحن البشر فلا نعرف منها إلا جانبًا واحدًا فقط، وملونًا في الغالب لون نفسياتنا ومواقفنا وثقافتنا وتجاربنا وتطلعاتنا ومخاوفنا إلى آخره، اللهم إلا ما كان متعلقًا بالأرقام الوقائع التي لا يمكن المماراة فيها وما أشبه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015