إن الجاحظ في النص السابق إنما يمس قضية في منتهى الخطورة في ميداننا، الذي نحن بصدده هنا، وهي قضية الترجمة التي عليها المعول الأول في التواصل والتلاقح الثقافي بين أمم الأرض، وهو يبرز الشروط التي لا بد من توفرها فيمن يريد التصدي لتلك المهمة، إذا أراد أن يجيء عمله سليمًا ويؤتي ثماره على أحسن وجه، وكلنا يحفظ المقولة الشائعة في ذلك المجال، ألا وهي أن المترجم خائن بمعنى: أنه لا يمكن أن ينقل لنا على وجه الدقة، والقطع والتطابق المطلق ما في النص الذي ينقله إلى لغتنا مهما يكن من عبقريته وتفرده، وإنما كل ما يستطيعه أن يقلل إلى أدنى حد ممكن الفجوة القائمة بين اللغتين والعقليتين والذوقين، أو باختصار بين الثقافتين، ومع ذلك فسوف تظل ثمة نصوص تستعصي على الوصول بها إلى هذه الغاية، وهي نصوص الشعر وما إليها.

وقد استطاع الجاحظ أن يضع يده على مكامل المشكلة في طبيعة اللغات، وطبيعة البشر على السواء، رغم أنه قد قال ذلك منذ نحو اثني عشر قرنًا، لكنها العبقرية الجاحظية.

وفوق ذلك قد أمدنا -رحمه الله- بأسماء عدد من مترجمي العرب في عز نهضتهم ومجدهم في دولة بني العباس، وقد أثنى على ما تركه لنا الجاحظ في هذه النقطة في موقع الندوي قائلًا: وعلى الرغم من أن آراء الجاحظ عن الترجمة جاءت في القرن التاسع الميلادي، إلا أنها ما زالت صالحة إلى يومنا الحاضر، فبعد مرور عشرة قرون عليها وضع المفكر الروسي "بليخنوف" في القرن التاسع عشر والقرن العشرين شروطًا للمترجم الجيد، وللترجمة الجيدة تتطابق مع الشروط التي وضعها الجاحظ، كما أكد الدكتور سامي الدروبي في النصف الثاني من القرن العشرين على الشروط ذاتها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015