شيئًا، ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو لمعاشهم وفطرهم وحكمهم، وقد نقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن، ومن لسان إلى لسان؛ حتى انتهت إلينا وكنا آخر من ورثها ونظر فيها.
فقد صح أن الكتب أبلغ في تقييد المآثر من البنيان والشعر، ثم قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له: إن الترجمان لا يؤدي أبدًا ما قال الحكيم على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على الجلي، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقها وصدقها إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها مثل مؤلف الكتاب وواضعه، فمتى كان -رحمه الله تعالى- ابن البطريق وابن ناعمة وابن قره وابن فهريز وثيفيل وابن هيلي وابن المقفع مثل "أرسطوطاليس"؟ ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟
ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضًا قد تكلم بلسانين علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة وإنما له قوة واحدة؟ فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات، وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتة مترجمًا يفي بواحد من هؤلاء العلماء.