إن كتاب (المقدمة) وكتاب (العبر) لابن خلدون، هما عمل نادر وعظيم القيمة توجه فيه ابن خلدون إلى الناس جميعًا، لا إلى نخبة من المفكرين، أو إلى جماعة ضيقة من الفلاسفة، والتَّاريخُ كما يراه ابن خلدون فرع من الفلسفة، وله ظاهر وباطن، فأما في ظاهره فلا يزيد على أخبار الأيام والدول، وأما باطنه فنظر وتحقيق وتعليل للكائنات عميق كما يقول هو بأسلوبه. إن ابن خلدون إذ يُخضع الظواهر الاجتماعية للقوانين؛ فإنّما يبحثُ عن مدى الارتباط بين الأسباب والمسببات، ولم يكتف بالوصف وعرض الوقائع وبيان ما هي عليه، وإنّما اتجه اتجاهًا جديدًا في بحوثه الاجتماعية، جعله يعلن بصراحة أن التطور هو سنة المُجتمعات إذ إن الظواهر الاجتماعية لا تثبت على حالة واحدة، وهذا هو السبب في تباين الأنظمة الاجتماعية، بتباين المكان والزمان.

وقد اعتمد ابن خلدون في بحوثه على ما لاحظه في الشعوب التي عاصرها، واحتك بها، ووجد بينها وبين الشعوب السابقة عليها، ودرس العلاقات الاجتماعية بالإضافة إلى ما جمع من معلومات تاريخية أخضعها للعقل، وهو ذو منهج استقرائي استنتاجي، يعتمدُ فيه على الملاحظة والدخول على الموضوع دون أية فكرة مُسَبّقة، وإنْ لُوحِظَ أنّ استقراءه ناقص بعض الشيء؛ لأن الكثير من القوانين والأفكار التي وصل إليها، إنّما تصدق على الأمم التي كانت في عصره، لا على غيرها.

ويُشير الباحثون إلى أن ابن خلدون قد تحدث في (المقدمة) عن القوانين التي يسير عليها التزايد في النوع الإنساني، سابقًا بأربعمائة سنة "مالتس" الإنجليزي في نظريته المتعلقة بتزايد السكان، وهي النظرية التي تقول: إن السكان يتزايدون كل خمس وعشرين سنة بنسبة متوالية هندسية واحد اثنان أربعة ثمانية ستة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015